الاحتفال بذكريات العظماء وفاء و إخلاص.. لأنهم وفوا بما عاهدوا عليه الله والشعب والنفس، وحققوا أمانيهم بخاتمة الاستشهاد.. فالذكرى لا تقام من أجلهم كأشخاص، بل تقام، لأن حياتهم جزء من تاريخ هذا الوطن
العظيم، وتذكير للأجيال على مدى العصور، بما قدمه أجدادهم و آباؤهم من تضحيات غالية كي يتحرر الوطن ويسعد أبناؤه وينعموا بالحرية فوق أرضهم..
وعلى امتداد الرقعة الجغرافية الواسعة للوطن التي سالت على وهادها وأوديتها وشعابها وتلالها وأزقتها وجبالها وكل قراها ومدنها، أنهار من دماء خيرة أبناء الجزائر، تحيي الجزائر ذكرى يوم الشهيد الذي ضحى بنفسه من أجل أن نستمتع بنعيم الاستقلال والسيادة الوطنية و نستنشق هواء الحرية، التي كانت بالأمس القريب وإبان الاستعمار الفرنسي، حلما يكاد يكون مستحيل التحقيق، نظرا لتشبث فرنسا بأرض الجزائر، والتي لأهميتها خرجت عجوز أوروبا من كل المستعمرات الإفريقية بهدف التفرغ للجزائر باعتبارها الكنز الكبير والخير الوفير الذي ما كانت تصدق أنها استولت عليه، وإن كان ذلك بعد مقاومات كبيرة منتشرة في جميع أنحاء الوطن..!
تحيي الجزائر، اليوم، “يوم الشهيد”، وهو اليوم الذي تم الاحتفال به لأول مرة سنة 1989 بمبادرة من تنسيقية أبناء الشهداء تكريما لمـا قدمه الشهداء، كما تهدف هذه المناسبة إلى إرساء الروابط بين الأجيال وتذكير الشباب بتضحيات الأسلاف من أجل استخلاص العبر والاقتداء بخطهم الشريف، وعرفانا بما قدمه الشهداء من تضحيات جسيمة، ويمثل هذا اليوم وقفة لمعرفة مرحلة الاستعمار التي عاشها الشعب الجزائري في بؤس ومعانـاة وهذا لأن التاريخ يمثل سجل الأمم، فالجزائر أمة مقاومة للاحتلال منذ فجر التاريخ خاصة الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الشرس، حيث قدمت الجزائر قوافل من الشهداء عبر مسيرة التحرر التي قادها رجال المقاومات الشعبية منذ الاحتلال في 1830 مرورا بكل الانتفاضات والثورات الملحمية التي قادها الأمير عبد القادر والمقراني والشيخ بوعمامة وغيره من أبناء الجزائر البررة، وكانت التضحيات كبيرة مع تفجير الثورة المباركة في أول نوفمبر 1954، حيث التف الشعب حول جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني، فكانت تلك المقاومة والثورة محطات للتضحية بالنفس من أجل أن تعيش الجزائر حرة مستقلة، وبفضل تلك التضحيات سجلت الجزائر استقلالها في 5 جويلية 1962.
18 فيفري يوم الشهيد وذكرى ازدياد زيغود يوسف
قال المجاهد والوزير الأسبق للمجاهدين ابراهيم شيبوط، في تصريح سابق للصحافة إنه لم يكن قبل استلامه الحقيبة الوزارية يُحتفل بيوم الشهيد، بل كان الشهيد يقدس دونما تخصيص يوم له، وكان دائما يُذكر النشيد الذي يقول “إخواني لا تنسوا شهداءكم”، ولما تولى حقيبة وزارة المجاهدين، قرر أن تكون هذه الذكرى يوما وطنيا، بعد عقده اجتماع مع منظمة المجاهدين، وتم الاتفاق رسميا على أن يوم الشهيد هو 18 فيفري، وتم اختيار هذا اليوم لأنه مناسبة ازدياد الشهيد زيغود يوسف.
الأستاذ إسماعيل أونيسي: “الهدف من يوم الشهيد هو ترسيخ قيمته وعظمة تضحياته”
“عندما التقى أبناء الشهداء في الندوة الأولى التي جمعتهم في نادي الصنوبر، أجمعوا على اختيار هذا اليوم يوما وطنيا للشهيد وهذا انطلاقا من قناعة بأن مقام الشهيد في أعلى مقامات التبجيل والتذكير والأيام الوطنية والعالمية التي تعوّد شعبنا أن يحتفل بها على المستوى الرسمي والشعبي، فلقد اعتاد المواطن الجزائري أن يحتفل بأعياد وطنية ودينية ولكنه لم يسمع منذ الاستقلال حتى عام 1990 بشيء اسمه اليوم الوطني للشهيد وهو 18 فيفري، ونظرا لأن مكانة الشهيد معززة عند الله وعند البشر لأنه هو الوقود الذي أشعل لهيب الحرية، وهو المصباح الذي أنار درب السيادة والاستقلال، وبالنظر إلى أن الشهيد يبقى في كل الأزمان المتعاقبة رمزا للحرية والكرامة التي ينعم بها الشعب حاضرا ومستقبلا ، وبالنظر إلى أن الشعب الجزائري قدم قوافل الشهداء الأبرار قربانا إلى مذبح الحرية، وأنه يدرك أن أولئك الشهداء جاهدوا ضد العدو وفرطوا في الملك والأبناء والأزواج وملذات الحياة فداء لهذا الشعب ليعيش حرا أبيا كريما، فإن كل الاعتبارات وغيرها مما لا يتسع المقام لحصرها دفعت أبناء الشهداء من خلال منظمتهم الوطنية، إلى اعتبار يوم 18 فيفري من كل عام يوما وطنيا للشهيد وهذا ليستعيد الشعب الجزائري ذاكرته العملاقة بهذه المناسبة شريط التضحيات والدم والنار والعذاب وجثث الشهداء وجراح أيام الاستدمار الفرنسي، ولكي يربط بين الماضي والمستقبل وليتذكر أن هؤلاء ماتوا في خندق واحد ومن أجل هدف واحد ومن أجل حرية شعب الجزائر العربي الأبي المسلم.
وقال الأمين الولائي للمنظمة الوطنية لأبناء الشهداء إسماعيل أونيسي:”إن الهدف والغاية المقصودة من وراء اعتبار هذا التاريخ يوما وطنيا للشهيد، إنما هو من أجل ترسيخ قيمة الشهيد وعظمة تضحياته في مقدمة هذا الشعب من أجل الحرية وفي نفسية وأذهان الأجيال الحاضرة التي كادت الأوضاع الحالية ومظاهر الجري وراء ملاذ الحياة الدنيا من قبل هذا وذاك ممن يعدون من الجيل الذي قاد ثورة التحرير الكبرى في الجزائر ضد الظلم والاستغلال الفرنسي، ليعود إلى ذاكرة الجيل الحاضر أن أولئك الشهداء لم تلهيهم الدنيا عن الوطن وحريته.
فالبعد الذي يرمي إليه هذا اليوم هو الرجوع بذاكرة الشعب إلى الوراء أيام الاستدمار الفرنسي وأيام الثورة، وما قدمت هذه الثورة من تضحيات وأرواح من أجل نزع حرية هذا الشعب من قبضة العدو الفرنسي ولكي يعيش هذا الشعب سيدا كريما متراحما فيما بينه.
مغزى هذا اليوم كذلك هو تذكير أبناء الجزائر من جيل الاستقلال، بأن الحرية والسيادة والاستقلال ما كانت لتكون كلها لولا أن قدم الشعب مليون ونصف من أبنائه كثمن عظيم لها. ولكي يقف الشعب وجيل الاستقلال على حقيقة فرنسا التي تدعو اليوم إلى تنصيب محاكم ضد النازية الألمانية، متناسية أن نازيتها في الجزائر لم تبلغ درجتها النازية الهتليرية ولا حتى النازية الصهيونية المعاصرة.
إن اتخاذ هذا اليوم يوما وطنيا للشهيد فيه رجوع بهذا الشعب وبذاكرته إلى البطولات والمقاومات والثورات الشعبية التي كانت البدايات الجهادية لثورة التحرير الكبرى، وفيه وقوف على تاريخ كفاح هذا الشعب الطويل المتلاحق المراحل حتى الاستقلال وفيه تعبير عن اعتزاز الشعب الجزائري بكفاحه المرير وبقوافل شهدائه عبر المقاومات الشعبية حتى يوم النصر المبين، ليقرأ فيه الشعب نفسه ويقف على معاني التضحيات الحقيقية من أجل الوطن ليستخلص بنفسه أنه لا تاريخ لشعب ولا مكانة له إن هو ترك نضالاته ورموز كفاحه وذكريات ويلات الاستدمار وراء ظهره فارا وهاربا إلى الأمام يبحث عن ملاذ الدنيا من جاه وسلطة ومزيد من الانغماس في ملاهي الحياة.
واتخاذ مثل هذا اليوم يوما وطنيا للشهيد فيه عودة بهذا الشعب وبوعيه إلى تاريخه، ليقرأ فيه معاني الوطنية والنضال والإسلام والجهاد وحب الوطن من خلال استذكاره لقوافل الشهداء الذين قدمهم قربانا لمذبح الحرية، فجاءوه فرحين طائعين مهللين فعاشوا شرفاء وماتوا من أجله شرفاء، ولم تستطع الدنيا أن تسرق منهم جلال الوطن ولا ذلوا ولا استكانوا أمام الأعداء وما ركعوا لشهوات الدنيا مثلما ركع لهذا اليوم الكثير بعد الاستقلال والتحرير.
وفي نهاية المطاف، فإن يوم 18 فيفري سيبقى رمزا حيا للجزائر ومعنى غاليا لا يزول من ذاكرة الأجيال الصاعدة، مذكرا الأجيال والشباب بجرائم ديغول وبيجو وبيجار ولاكوست وغيرهم من جلادي فرنسا الاستعمارية، ومذابح خراطة وقالمة وسطيف وسياسة الأرض المحروقة التي نفذتها حكومة ديغول.
“الشهداء هم الفئة التي أدت واجبها على أكمل وجه”
قال الرئيس الراحل هواري بومدين في إحدى خطبه حول ثورة نوفمبر المجيدة، “الشهداء رحمهم الله هم الفئة التي أدت واجبها على أكمل وجه”، قالها الرئيس الراحل و هو يذرف دموعا حامية، أمام الشعب، وهو يردد أسماء لشهداء أمثال بن مهيدي ، ولطفي، والقافلة طويلة وحبلى بالأسماء التي يبقى صداها محفورا في قلوب وذاكرة الشعب الجزائري.
ففرنسا الاستعمارية، كانت تعرف أن الجزائريين ليسوا خانعين ومجبولين على قبول الاحتلال والذل والهوان، لذا واجهتهم بأشرس الأسلحة، وأعتى الاستراتيجيات الحربية (سياسة الأرض المحروقة والمناطق المحرمة، ومراكز “لاساس”).
لكن الشهداء، والمجاهدين، تصدوا للمارد الفرنسي والكثير من شهداء ثورة التحرير، هم اليوم بلا قبور ولا شواهد تدل عليهم، ذلك أن الجيش الاستعماري الفرنسي كان يبطش كفرعون عصره، لا حسيب ولا رقيب، فكل شيء مباح ومستباح لدى جنرالات وعساكر فرنسا، ففي كل شبر من الجزائر، قطرة دم شهيد وشهيدة، لكن القبور مجهولة، لذا فعمليات إعادة دفن الرفات التي تجرى في كل مرة تعد من السنن الطيبة للحفاظ على الذاكرة الجماعية للأمة الجزائرية (…) حمو بوتليليس، زدور إبراهيم بلقاسم، إبن العالم الجليل الشيخ الطيب المهاجي، أحد علماء وهران والجزائر، وأسماء أخرى، رمت بهم فرنسا في متاهات وأماكن غير معروفة، حتى لا يكونوا قبلة وحافزا للمجاهدين ليذودوا عن حياض الوطن، لكن الفكر الاستعماري الهدام، لم يصمد أمام عزيمة رفقاء الشهيدين، وكبرت قافلة الشهداء لتشمل آخرين مازالوا مجهولين لحد الآن ونحن نحيي اليوم الوطني للشهيد، تستوقفنا هذه المحطة لاستلهام جسامة التضحيات، التي قدمها الشعب الجزائري برمته سواء داخل الوطن أو في ديار المهجر.
الجزائريون مع برنامج ثري بالمناسبة
سطرت المنظمة الوطنية لأبناء الشهداء برنامجا ثريا لإحياء اليوم الوطني للشهيد المصادف لـ 18 فيفري الجاري، بالتنسيق مع مختلف الفاعلين المشاركين في تخليد هذه المناسبة التاريخية، حيث يتخلل البرنامج الاحتفالي في هذا الإطار تقديم وثائق وأشرطة وثائقية تعكس الجرائم الرهيبة للاستعمار الفرنسي الممارسة في حق الجزائريين طيلة سنوات الاحتلال، كما خصصت منظمة أبناء الشهداء العديد من النشاطات الاحتفالية تخليدا للذكرى، كبرمجة العديد من المحاضرات والندوات التاريخية التي ترمز لليوم الوطني للشهيد مع تقديم شهادات حية لبعض من عايش تفاصيل ثورة التحرير المباركة إلى جانب أعضاء الأسرة الثورية.
وستعمل المنظمة على تنسيق العمل في هذا الإطار مع المنظمات والجمعيات التاريخية الأخرى كمنظمة المجاهدين وجمعية مشعل الشهيد ومختلف أطياف المجتمع المدني، في محاولة لإقناع الجميع بأهمية المشاركة الفعالة في إحياء هذه المناسبة الغالية التي تعكس التضحيات الجسام للشهداء في سبيل استقلال الوطن.
كما ستكون المنظمة حاضرة في فعاليات الاحتفالات الرسمية للذكرى لهذه السنة، من خلال العديد من النشاطات التاريخية والثقافية وعرض أشرطة وثائقية للبطولات التي صنعها بعض الشهداء أثناء الثورة، إلى جانب استضافة باحثين ومؤرخين وأساتذة جامعيين لإثراء البرنامج الاحتفالي المخصص للمناسبة. كما ستكون هذه المناسبة لتكريم بعض المجاهدين وعائلات الشهداء ومتقاعدي بعض الأسلاك الأمنية.
وأمام هذه الأنشطة والمشاركة القوية لجميع المنظمات وشرائح المجتمع في تخليد ذكرى يوم الشهيد فرصة هامة لتأكيد صدق الوفاء للشهداء الذين ضحوا من أجل البلاد، باعتبارها محطة أخرى لتأكيد التمسك بموقف تجريم الاستعمار والمطالبة بالتعويض.