إن من أعظم ما وُصف به رسول الله عليه الصلاة والسلام صفتين قد وُصِف بهما ربنا الرحمن، فقال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم” التوبة: 128، جاء في الشفا للقاضي عياض رحمه الله: ” قال بعضهم: من فضله عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى أعطاه اسمين من أسمائه، فقال: بالمؤمنين رؤوف رحيم”. أمة المرحمة: إن مظاهر الرحمة في حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام فوق العد والحصر، فميلاده رحمة، وبعثته رحمة، وتعامله رحمة، وعدله رحمة، وجهاده رحمة، وتبليغه رحمة، بل إن حياته كلها بكل تفاصيلها رحمة للعالمين، يصدق فيها قول الحق تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” وما أجمل ما أورده القاضي عياض في الشفا في هذا الباب، حيث يقول: ” ومن شفقته على أمته عليه السلام تخفيفه وتسهيله عليهم، وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم، كقوله عليه الصلاة والسلام: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء”، وخبر صلاة الليل ونهيهم عن الوصال، وكراهته دخول الكعبة لئلا يُعَنِّتَ أمته، ورغبته لربه أن يجعل سبَّه ولعنه لهم رحمة بهم، وأنه كان يسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته، ومن شفقته عليه السلام أن دعا ربه وعاهده فقال: ” أيما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة وصلاة وطهورا وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة”، ولما كذبه قومه أتاه جبريل عليه السلام فقال له: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، الحديث، فقال النبي عليه السلام: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا”، وروى ابن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبي عليه السلام: إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، فقال: “أؤخر عن أمتي لعل الله أن يتوب عليهم”، قالت عائشة رضي الله عنها: “ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما”، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “كان رسول الله عليه السلام يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا”، وعن عائشة: أنها ركبت بعيرا وفيه صعوبة، فجعلت تردده فقال رسول الله عليه السلام: “عليك بالرفق”. أيها المؤمنون: لقد أوردنا جانبا واحدا من جوانب عظمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو بحق كما وصفه ربه تبارك وتعالى، قد بلغ الكمال البشري بلا منازع: “وإنك لعلى خلق عظيم” القلم: 4، واستحق بذلك ثناء المنصفين من عباقرة البشرية، ودونكم شهادة فيلسوف الهند المهاتما غاندي في شخص سيدنا رسول الله عليه السلام: ” أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يمتلك دون منازع قلوب ملايين البشر، لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول عليه السلام، مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته، مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته…”.
الجزء الثالث والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر