* 11 موقعا للمجازر و18 ألف شهيد
ستظل مجازر 8 ماي 1945 التي اقترفتها قوات الاستدمار الفرنسي ضد الشعب الجزائري الأعزل، محفورة في الذاكرة الوطنية، كونها من أبشع الجرائم ضد الانسانية والقيم الحضرية التي لا تسقط بالتقادم.
لقد كانت عمليات قتل ارتكبتها قوات الاحتلال الفرنسي ضد الشعب الجزائري، وشملت معظم أرجاء الجزائر في سطيف والمسيلة وقالمة وخراطة وسوق أهراس، بعد أن قامت الشرطة الفرنسية بقمع المظاهرات فيها يوم إعلان انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، أتاحت المظاهرات التي جرى تنظميها في مدينة قسنطينة، الفرصة للقوميين للمطالبة باستقلال البلد عن فرنسا، ثم تدخلت الشرطة وقتل شاب وتحولت المظاهرات إلى أعمال شغب. وقررت سلطات الاحتلال الفرنسي تطبيق القانون العُرفي وشرعت الشرطة في قمعها ما أدّى لمقتل آلاف الأشخاص.
خراطة (بجاية) لا تنسى ما عانته
بعد مرور 78 عامًا من المذابح التي تعرضوا لها، لا يزال أهل خراطة بولاية بجاية يتذكرون الآلام و”الجرح الغائر الذي يظل مفتوحا للأبد” التي خلفتها لديهم مجازر 8 ماي 1945، حسب ما أكده آخر الناجين منها، سعيد عليق، الذي على الرغم من تقدمه في السن (89 عامًا) وتدهور صحته، يحفظ بشدة هذه “الذكريات الرهيبة”.
وقال عليق في تصريحات لوكالة الأنباء “لقد كانت أحداث 8 ماي 1945 رعبًا بكل أبعاده”، وكررها مرارًا، متسائلا إلى غاية اليوم كيف مكنه القدر من الافلات من جحيم ذلك اليوم وكيف لم يفقد صوابه بسبب ما رآه بأم عينيه من مجازر لا يكاد يتصورها المنطق وتبدو ضربا من الخيال.
لم يكن “دا سعيد” يتجاوز الـ 12 سنة من العمر عندما شهد بعينيه مقتل جميع أفراد أسرته: والده، ووالدته وشقيقيه وشقيقته يمينة و هي أصغر إخوته التي كانت تبلغ من العمر أربع سنوات، فلقد رآهم جميعا ينهارون ويموتون واحدًا تلو الآخر رميا برصاص الجنود الذين زعموا أنهم جاءوا الى منزلهم للبحث عن ناشطين شاركوا في المظاهرات التي اندلعت صباحًا في وسط المدينة.
كان المنزل بعيدًا عن المنطقة المعنية ولم يكن يبدو على الإطلاق كملاذ لاستقبال أفراد آخرين بالنظر إلى ضيق حجمه الذي لم يكن له امكانية استيعاب عدد أكبر من الأشخاص عدا قاطنيه. فلقد كان السكن كوخا عاديا معدما صغيرا، مثل الأكواخ الكثيرة المنتشرة في المنطقة.
لكن حالة المنزل هذه لم تكن كافية لتجنيبه حقد وغل الجنود الاستعماريين الذين في كراهيتهم العمياء قتلوا جميع أفراد العائلة ولم يكفهم ذلك، بل أتوا أيضا على الحيوانات الأليفة التي كانت موجودة بالمكان ودمروا القليل مما تملكه العائلة.
نجا “دا سعيد” من المجزرة لأنه كان مختبئًا خلف صخرة، لكنه صدم نفسيا لمدى الحياة ولازالت آلام الذكرى حية توجعه. وقال بكثير من التأثر إنه “من الصعب نسيان هكذا وحشية”.
من الواضح أن “دا سعيد”، الذي حمل السلاح لاحقًا في عام 1954 وانضم إلى الثورة، ليس الوحيد الذي عاش هذه الأحداث، بل بالعكس، هم آلاف الذين عانوا “جهنم” يوم 8 ماي، أي غداة أحداث سطيف، فلقد زرع الجنود الموت وأعدموا دون سابق إنذار عشرات الفلاحين الفقراء.
كان ذلك اليوم يوم الثلاثاء وهو يوم السوق الأسبوعي بالمنطقة، وكان هناك حشد من السكان تجمعوا بشكل عفوي تضامناً مع ما حدث في سطيف، عاصمة الهضاب العليا، ولكن أيضاً لاغتنام الفرصة للمطالبة بحرية الشعب.
ولقد انتشرت الأخبار من سطيف كالنار في الهشيم في جميع أنحاء منطقة بجاية وتدفق حوالي 10.000 شخص من القرى المجاورة إلى خراطة الذين هتفوا بصوت واحد ليقولوا “لا للاستعمار”.
حينها بدأت أحداث الرعب…
تخوفت الإدارة الاستعمارية فورا من عدد المتظاهرين الكبير، فقامت بتوزيع الأسلحة على عناصرها الإداريين الذين بدا عليهم أنهم ذهلوا من الهبة الشعبية التي اعقبت اطلاق النار على حافلة يوم 8 ماي في الطريق ما بين خراطة وسطيف.
لما وصل المتظاهرون إلى الساحة المركزية بالمدينة، استقبلتهم طلقات السلاح من على نوافذ المكاتب الادارية للمستعمر والتي كان ضحيتها الأول الشهيد شيباني الخير، الذي استشهد على الفور، ما أثار السخط العام في أوساط المتظاهرين.
وقام البعض، على غرار المجاهد لحسن بخوش، البالغ من العمر 20 عامًا، بمهاجمة بعض المباني الإدارية بما في ذلك مبنى البريد وأضرموا فيها النيران، فكان رد فعل القوات العسكرية الفرنسية بإعلان “حرب حقيقية ضد السكان المحليين، ونشر ترسانة من أجهزة القمع”.
ومن بين الناجين، الراحل لحسن بخوشين، الذي حضر هذه المجازر، والذي نجا بصعوبة من الموت بعد أن حُكم عليه بـ “الاعدام” مرتين، مرة لما كان سيُلقى حياً في مضايق “شعبة الآخرة” ومرة أخرى في قسنطينة لما حكم عليه بالإعدام من قبل محكمة عسكرية ولم يُنفّذ .
وقد صرح الراحل بخوشين في مقابلة له مع “وأج” أسابيع قليلة قبل وفاته في 19 مارس 2019، أن ما حدث له هو “معجزة” كونه نجا من الموت مرتين بأعجوبة.
وقال مازحا: “لقد أحبطت بعون الله كل القرارات الاستعمارية”، قبل أن يضيف بأكثر جدية وبعيون دامعة أن “ما وقع نستطيع أن نسرده اليوم بشكل عادي ولكن عندما وقع كان أمرا مروعا لا يكاد يصدق”.
دا لحسن، الذي ذكر اسمه فقط يحرك كل الذكريات فيما يتعلق بالمذابح في جميع أنحاء الولاية، قد عاش وعانى من أحلك صفحاتها. لقد شهد بأم عينيه العشرات من مواطنيه يموتون رميا من على جبال قرية شعبة الآخرة العميقة.
كان الجنود المكلفون بهذه المهمة الدنيئة سعداء بسماع أصوات جثث ضحاياهم وهي تتصادم على الجدران الصخرية المطلة على النهر. “كانوا يستمتعون كالخبثاء”، كما قال دا لحسن، متذكرا “طقوس الموت الحقيقية التي مر بها هؤلاء الجنود” والتي حولت في نهاية اليوم، مياه النهر والجزء السفلي من الجبل “حمراء بدماء الضحايا”.
وفي الواقع، استمرت المجازر عدة أيام امتدت على الأقل حتى 22 ماي، متزامنة مع عرض عسكري مهيب على الشواطئ من أوقاس إلى ملبو، أمام تجمع إجباري لجميع سكان منطقة الميناء، ليطلعوا على قوة الجيش الاستعماري.
وبالإضافة إلى قوات المشاة، استعمل الجيش الاستعماري ترسانة كبيرة من القمع في هذه الأحداث، لا سيما طائرات B-26، والقاذفات المقاتلة وA-24 (على ارتفاع منخفض) وسفينة البحرية عسكرية، كلها استعملت لقصف عشرات المداشر والقرى خلال هذه الفترة بما لا يقل عن ثلاثين طناً من المتفجرات.
مواقع شاهدة أبدية على الجريمة بقالمة
ستبقى المواقع التي ارتكب فيها الاستعمار الفرنسي مجازر قتل وحرق راح ضحيتها أبرياء عزل يوم 8 ماي 1945، شواهد أبدية على بشاعة الجرم رغم رحيل كل شهود العيان بقالمة الذين لم تكتب لهم المشاركة في إحياء الذكرى الـ 78 للمجازر والأولى لليوم الوطني للذاكرة المخلد لها.
فقد ودعت قالمة السنة الماضية آخر شهودها العيان عن تلك المجازر الوحشية للاستعمار المجاهد عبد الله يلس الرئيس الشرفي لجمعية 8 ماي 45 بالولاية، وذلك عن عمر ناهز 96 سنة، وهو من معطوبي أحداث ذلك اليوم، إذ اصيب على مستوى رجله وكان حينها يبلغ من العمر 20 سنة وبقي يعاني منذ ذلك الحين من إعاقة حركية إلى غاية وفاته.
كما عرفت السنوات المتعاقبة والعقود المتتالية نهاية كل الجيل الذي عايش مجازر 8 ماي 45 واحدا تلو الآخر والذين رحلوا دون تحقيق أمنيتهم في رؤية اليوم الذي تحاسب فيه فرنسا على مجازرها، ويتم الاعتراف بضحايا المجازر على أنهم شهداء أو حتى يفتح ملف المفقودين في تلك الأحداث حتى تقر أعين أهاليهم ويتمكنوا من الحصول على شهادات وفاتهم أو الوقوف على قبورهم للترحم عليهم.
لكن رحيل كل أولئك لا يعني تخلص الاستعمار الفرنسي من العار الذي لازمه طيلة 8 عقود مضت، لأن الحقول وحواف الطرقات والوديان والجسور التي تمت فيها الإعدامات والتصفيات الجسدية ورميت فيها الجثث وأحرقت، ما تزال وستبقى شاهدة على الجريمة.
وقد تعالت أصوات الجيل الجديد بضرورة الاهتمام بهذه المواقع أكثر وحمايتها وإعداد الدراسات التاريخية بشأنها، وهي أحد أهداف بعض المتطوعين الذين قاموا بتجديد اعتماد جمعية 08 ماي 45 بعد عامين من إغلاق مقرها كليا.
وحسب شهادات سابقة جمعتها “وأج”، فإن الذاكرة الجماعية بالمنطقة تحتفظ بصور القتل الجماعي التي أعلنها رئيس دائرة قالمة وقتها “السفاح أندري أشياري” ومعه بعض اليهود بإسقاط أول شهيد خلال المسيرة السلمية ذات مساء من 8 ماي 1945 وهو بومعزة عبد الله المدعو حامد البالغ حينها 19 سنة.
وقد تحولت كل المدينة والبلديات المجاورة لها إلى ساحة لأبشع المجازر منها قصة فظيعة لطريقة قتل الشابة فاطمة الزهراء رقي التي قطعت أجزاء من جسمها قبل قتلها، وقتل أفراد عائلة كاتب إبراهيم بمن فيهم طفل في الـ 12 من العمر وأمه الحامل في الشهر السادس، إضافة إلى الشاحنات التي كانت تجمع في كل ليلة مئات الشباب والرجال إلى منطقة كاف البومبة لقلتهم جماعيا وحرقهم.
11 موقعا للمجازر و18 ألف شهيد
تشير الوثائق التي بحوزة جمعية 8 ماي 1945 الولائية التي تأسست سنة 1995 خصيصا لمحاربة ثقافة النسيان وجعلت شعارها “لكي لا ننسى” وأعيد تجديد مكتبها مؤخرا، إلى أن ولاية قالمة قدمت أكثر من 18 ألف شهيد في حصيلة تقريبية للمجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي وبقيت سياسة القتل والتصفية متواصلة لأكثر من شهرين، وهي خلاصة كل الشهادات التي جمعها الناشطون في الجمعية.
وقد توج مجهود الناشطين في الدفاع عن القضية بإحصاء 11 موقعا كان مسرحا لتلك المجازر، يتوزع عبر أماكن متفرقة من عاصمة الولاية وبلديات بلخير وبومهرة وهيليوبوليس وواد شحم ولخزارة وحتى عين العربي.
وأصبحت بعض المواقع التي كانت مسرحا للجرائم الاستعمارية منقوشة في الذاكرة الجماعية لكل سكان الولاية ومنها “فرن الجير” الذي كان تابعا للمعمر “مرسال لافي” بمنطقة هيليوبوليس يستعمله في حرق الحجارة وتحويلها إلى مادة الجير، لكنه حول إلى “محرقة بشرية” حقيقية أحرقت فيه جثث عشرات الأبرياء العزل المقتولين من طرف الجندرمة والبوليس والمليشيات الفرنسية.
ووقعت مجازر مماثلة في كاف البومبة بنفس البلدية الذي رميت فيه عشرات الجثث ودفنت جماعيا لإخفاء الجرم، كما عاش الجسر الصغير لبلدية بلخير بعض المجازر وكذا حافة وادي سيبوس ببلدية بومهرة أحمد، إضافة إلى الثكنة القديمة وسط مدينة قالمة التي ما تزال بها بقايا المقصلة الحديدية التي أعدم بها المشاركون في مسيرتهم السلمية.
وفي المقابل، أظهرت المعاينة الميدانية لبعض المواقع بأنها تعاني الإهمال وهو ما يعيشه الموقع المعروف باسم “كوشة الياجور” الواقع على بعد 3 كلم من المخرج الغربي لبلدية قالمة، وقد كانت تابعة لأحد المعمرين يقوم فيها بإنجاز الآجر، وقد استعملتها الآلة الاستعمارية لإعدام عشرات الأبرياء من مناضلي الحركة الوطنية الذين عبروا عن رغبتهم في التحرر.
ووفقا للأمين العام لجمعية 8 ماي 45 بعين المكان، فإن هذا الموقع يجب أن يحظى بتدخل سريع من الجهات المسؤولة لأنه مهدد بالزوال، فعند إنجاز معلم مخلد للموقع، كانت هناك لافتة مكتوب عليها “بهذا الموقع تم إنزال المعتقلين وحشدهم وإعدامهم جميعا رميا بالرصاص دون تمييز”، لكنها اليوم اختفت، كما قام أحد الفلاحين بالجوار بحفر بركة كبيرة لتجميع مياه السقي تهدد كل محيط الموقع بما فيها بقايا البناية الاستعمارية.
كانت منطقة قالمة خلال الفترة الاستعمارية مربوطة بشبكة السكة الحديدية عبر خط قالمة-الخروب (قسنطينة) الذي وضع حيز الخدمة منذ سنة 1879 كجزء من خط مغاربي يربط بين المغرب وعاصمة الجزائر وتونس مرورا ببلديات الولاية من غربها إلى شرقها عبر بلديات عين رقادة ووادي الزناتي وبرج صباط وطاية بوهمدان وحمام دباغ ومجاز عمار وقالمة محطة ثم بلخير وبومهرة أحمد والناظور وبوشقوف ومجاز الصفاء وصولا إلى سوق أهراس ثم تونس .
وتشير الشهادات المكتوبة لدى جمعية 8 ماي 45 إلى أن “المستعمر الفرنسي قام خلال المجازر بإخراج المسافرين العرب عنوة من عربات القطار ورميهم بالرصاص بصفة عشوائية”.
وتخليدا للمجازر عبر السكة الحديدية، قامت السلطات المحلية في وقت سابق بإنجاز معلمين أحدهما بالقرب من نقطة الدوران المؤدية إلى شارع التطوع، والثاني بمحطة القطار، لكن بعد توقف قطار قالمة الخروب سنوات قليلة قبل الاستقلال، أزيلت نهائيا كل الآثار الدالة على وجود سكة حديدية بالموقع الأول، أما محطة القطار فهي تواجه خطر الزوال بعدما توقف قطار قالمة بوشقوف عن النشاط في السنوات الماضية.
وأكد ممثل جمعية 8 ماي 45 أن الهدف الأول يتمثل في حماية وترميم كل المعالم الشاهدة على بشاعة تلك المجازر، وأول خطوة ستكون من خلال مشروع إعادة الاعتبار لفرن الجير وإعداد دراسة علمية بالشراكة مع فرق متخصصة في علم الآثار، مبرزا بأن كل المعالم الأخرى يجب أن تحظى بترميم وحماية حتى لا تتعرض للإهمال والنسيان.
ل. ب

