ستظل مجازر 8 ماي 1945 التي اقترفتها قوات الاستعمار الفرنسي ضد الشعب الجزائري الأعزل، محفورة في الذاكرة الوطنية، كونها من أبشع الجرائم ضد الانسانية والقيم الحضرية التي لا تسقط بالتقادم.
تحيي الجزائر، اليوم، اليوم الوطني للذاكرة المخلد للذكرى الـ 79 لمجازر الثامن ماي 1945، والتي تبقى شاهدة على فظائع بشعة ارتكبها الاستعمار الفرنسي، وستظل محفورة بمآسيها المروعة في الذاكرة الوطنية التي أصبحت محصنة من أي مساومة.
وبالرغم من الاعتراف المحتشم للسلطات الفرنسية ببشاعة هذه الجريمة الاستعمارية من ضمن جرائم أخرى ارتكبت طيلة 132 سنة من الاستعمار، إلا أن الدولة الجزائرية قررت “عدم التخلي أبدا عن ملف الذاكرة وعدم المساومة بشأنه مع أي دولة”، مثلما أكد عليه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في عديد المناسبات.
حرب إبادة ضد شعب أعزل

أكد عدد من الباحثين والأساتذة الجامعيين في مجال التاريخ أن مجازر 8 ماي 1945 كانت حرب “إبادة مبرمجة” ضد شعب أعزل وشكلت منعطفا مفصليا في تاريخ الحركة الوطنية للانتقال من العمل السياسي إلى الكفاح المسلح.
وفي هذا الصدد، اعتبر الأستاذ الجامعي عامر رخيلة أن الوعي السياسي والاجتماعي الكبير السائد في أوساط المجتمع الجزائري في أربعينيات القرن الماضي جعله “ضحية لوحشية المستعمر الفرنسي الذي ارتكب واحدة من أبشع المجازر في حق البشرية في 8 ماي 1945”.
وأبرز السيد رخيلة أن هذه المجازر كانت حربا “مبرمجة لإبادة أكبر عدد من الجزائريين”، مشيرا إلى أنها كانت “منعطفا حاسما في مسار الحركة الوطنية”، وعززت قناعة الجزائريين بضرورة التحول إلى “العمل المباشر”.
كما ذكّر بانتهاج المستعمر الفرنسي سياسة “تقزيم هذه المجازر”، سواء من حيث عدد الضحايا (لم تتجاوز 1200 ضحية حسب التقديرات الفرنسية)، بينما تؤكد التقارير الجزائرية أن عدد الضحايا تجاوز (45 ألف شهيد)، أو من حيث الموقع الجغرافي بالتركيز على 3 مدن، سطيف
وقالمة وخراطة، بينما شملت هذه المجازر -يضيف الجامعي- “الشرق الجزائري كله، وامتدت إلى منطقتي القبائل والغرب، وحتى بوابة الصحراء”.
من جانبه، أبرز الباحث عيسى قاسيمي، أهمية هذه الحقبة في تاريخ الحركة الوطنية، التي اعتبرها “نقطة تحول تاريخية”، من خلال الانتقال من النضال السياسي إلى بداية “تبلور فكرة الكفاح المسلح”، بغية مواجهة المستعمر بنفس أساليبه، وهي “قوة السلاح والمقاومة في الميدان”.
كما أشار المتحدث إلى أنه من بين أهداف فرنسا الاستعمارية من هذه المجازر في حق الشعب الجزائري الأعزل، “تعويض السكان الأصليين بمستوطنين أوروبيين”، وهو ما لم يتأت للمستعمر الغاشم – مثلما قال – وذلك بفضل “انكشاف أساليب التلاعب والخداع” لديه في تلك الحقبة التاريخية، يضيف السيد قاسيمي.
ويرى الأستاذ الجامعي، دحمان تواتي، أن وحشية المستعمر الفرنسي في مجازر 8 ماي 1945، كانت بمثابة “جريمة بشعة ضد الإنسانية”، من خلال استعماله لطائرات عسكرية وبوارج حربية لتدمير قرى ومداشر مبنية من الطين، مشيرا إلى أنه من أسباب ارتكاب المستعمر الفرنسي لهذه المجازر “التغيرات الكبرى التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية على الوعي السياسي في الجزائر”.
واستطرد في هذا الشأن، أن استسلام الجيش الفرنسي في مواجهة القوات الألمانية عندما دخلت باريس، أثّر على “مستوى الوعي لدى النخبة السياسية والشعب الجزائري على حد سواء”، وهو ما سرع الأحداث وجعل الشعب الجزائري “يتمرد ضد فرنسا الاستعمارية المنهارة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية”.
كما أشار إلى أن هذا التحول، “أفزع المستعمر ودفع به إلى قمع الشعب الجزائري وارتكاب جرائم في حقه، وهو ما شكل نقطة حقيقية للانتقال من العمل السياسي إلى الثورة والكفاح المسلح”، يضيف السيد تواتي.
تاريخ مليء بالمجازر

يذكر المؤرخ محمد عطار وهو محافظ التراث بمتحف المجاهد للولاية التاريخية الخامسة بتلمسان، أن مجازر 8 ماي ليست جريمة الحرب الأولى لفرنسا الاستعمارية، التي يعج تاريخها بالجزائر بهذه الجرائم على غرار مجزرة 26 نوفمبر 1930 ضد سكان البليدة، ومجزرة قبيلة العوفية (واد الحراش) بالخامس من أفريل 1832 ومجزرة قبيلة “أولاد رياح” التي أبيد فيها 1200 شخص، رجالا ونساء وأطفالا بمغارة الفراشيش بمستغانم في 18 جوان 1945 بقيادة العقيد بليسييه.
ويستدل محمد عطار بما كتبه الجنرال روفيقو، الذي كان يقود القوات الاستعمارية عن بشاعة الهجوم في مجزرة “العوفية”، أن “جنودنا كانوا فوق أحصنتهم يحملون رؤوسا قطعوها فوق حافات سيوفهم، وفي باب عزون، عرضت أمام الجماهير أذرع مبتورة وآذان مقطوعة لنساء وهي لا تزال مزينة بالحلي”.
كما ذكر أن ظروف عيش الجزائريين كانت مزرية عشية ماي 1945، مشيرا إلى أن “القوات الاستعمارية كانت قد جردت عددا كبيرا من الجزائريين من أراضيهم التي تم استغلالها لإطعام أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية”، مضيفا على الصعيد السياسي “أن الجزائريين كانوا قد رفضوا فكرة الإدماج لمرسوم 7 مارس 1944، خاصة بعد تصريحات حركة انتصار الحريات الديمقراطية، التي ساهمت في الالتفاف حول فكرة الدولة الجزائرية”.
ويضيف المؤرخ أن الدول الأوروبية كانت تحتفل بنهاية الحرب العالمية الثانية وإمضاء الهدنة مع ألمانيا النازية، ولهذا فقد أراد الجزائريون المشاركة في هذه الفرحة ورفع العلم الوطني والمطالبة بحقهم في الاستقلال بأعلى صوت، “وهو حق قاتل الجزائريون في سبيله ببسالة في صفوف الحلفاء وسالت دماؤهم في مختلف ساحات القتال”.
وقد خرج الجزائريون بسطيف وخراطة وقالمة ومدن أخرى، على غرار تلمسان، استنادا إلى شهادات مجاهدين.
8 ماي 1945.. بوادر الكفاح المسلح

في 8 ماي 1945، قام عسكريون فرنسيون باغتيال بوزيد سعال، الشهيد الذي كان قد رفع الألوان الوطنية بمدينة سطيف، بمنتهى البرودة ليحولوا مظاهرات سلمية إلى اشتباكات دامية.
ففي سطيف وقالمة وخراطة، وصلت الإمدادات العسكرية لإبادة المتظاهرين العزل، ليقوموا بما سيعرف بأبشع وأدمى صفحات تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
ويذكر المؤرخ محمد عطار أن العساكر الفرنسيين والميليشيات المسلحة قاموا بإطلاق النار على الجموع، رجالا ونساء، أطفالا وشيوخا، دون أدنى تمييز، مقترفين في قرى ومداشر بعيدة جريمة لا يمكن أن يمحوها الزمن.
بالنسبة إليه، فإن مجازر 8 ماي 1945 كانت على سبق نية، في محاولة لدفع الجزائريين إلى دفن أمالهم في الاستقلال.
ويقول في هذا الصدد إن “الجيش الفرنسي كان يرمي الى استعراض قوته بعد أن اهتزت صورته نتيجة الخسائر التي تعرض لها على يد الجيش الألماني”.
وكانت نتيجة هذه المجزرة 45.000 جزائري سقطوا في ساحة الفداء.
مجازر 8 ماي وحلم الاستقلال

في مثل هذا اليوم، دقت الأجراس في فرنسا للإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار باريس على النازية.
وهي الحرب التي استخدمت فيها فرنسا الجزائريين وشعوب الدول المستعمرة كجنود في الصفوف الأولى لهزيمة الألمان، وبالتزامن مع إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية، استغل المناضلون الجزائريون الفرصة لتنظيم مسيرات تطالب بإطلاق سراح الزعيم الجزائري مصالي الحاج (مؤسس حزب نجم شمال إفريقيا عام 1929) والمطالبة بالاستقلال، في مسيرات جابت عدة مدن أبرزها قالمة وسطيف وخراطة.
ويروي المؤرخ بوعلام خلفة جانبا من مجازر 8 ماي 1945، وقال في كتابه عن تاريخ الجزائر الصادر عام 1987: “8 ماي 45 إنها الحقيقة المروعة، مذابح لعشرات الآلاف من الرجال والنساء، ميليشيات أوروبية أعطت نفسها الحق في قتل الجزائريين، حرق للجثث ومقابر جماعية”.
صباح عادٍ ليوم دامٍ
في سطيف، بدا ذلك الصباح عاديا، حيث اعتاد الناس التوجه إلى سوق الثلاثاء، وفجأة تحول الأمر إلى مسيرات حاشدة أمام “مقهى فرنسا” الشهير وسط المدينة، وكان الشاب وعضو الكشافة بوزيد سعال (26 سنة) يتقدم المسيرة.
في البداية، ردد المحتجون أناشيد وطنية أبرزها أنشودة “من جبالنا”، ورفعوا علم الجزائر لأول مرة، وفورا طالب محافظ الشرطة الفرنسي المحتجين بالمغادرة وإنزال الراية، ولكن الكشاف بوزيد رفض الامتثال لأوامره ليوجه المحافظ رصاصة قاتلة،
وهكذا سقط أول شهيد في إحدى أبشع المجازر التي ارتكبها المستعمر.
ويقول المؤرخ الفرنسي بنجمان ستورا إن المجازر جاءت وسط مناخ معقد، حيث خاف الأوروبيون من أن يتمكن الجزائريون من فك الارتباط مع فرنسا تماشيا مع السياق الدولي الجديد والحصول على الاستقلال، وهو ما يعني بالنسبة للأوروبيين خسارة الكثير من الامتيازات في الجزائر. ووفق هذا الطرح، يفسر المؤرخون تسارع الأحداث نحو العنف والقتل وكيف تحصّل الأوروبيون على أسلحة من الشرطة لإبادة الجزائريين بشكل عشوائي، وقد تشكلت ميليشيات في قالمة بموافقة السلطات الفرنسية ومنحت الأوروبيين حق إطلاق النار على المدنيين الجزائريين العزل.
هذا المشهد الدرامي انتهى بمقتل 45 ألف جزائري بحسب أرقام القنصلية الأمريكية، وهو ما دفع بالجزائريين للاقتناع بأن لا حل مع الاستعمار الفرنسي سوى القيام بثورة للحصول على الاستقلال.
لمياء. ب