-
هكذا تحولت “الطلبات المهنية” إلى منفذ للمضاربة
-
رقابة مشددة وتشريعات صارمة.. نحو سوق أكثر شفافية
تشهد سوق السيارات في الجزائر، ضغوطا متزايدة بفعل اتساع ممارسات المضاربة التي تستغل نقص المركبات وارتفاع الطلب لرفع الأسعار بشكل غير مبرر، ما يدفع العديد من المتدخلين إلى البحث عن طرق التفاف جديدة للحصول على السيارات وإعادة بيعها خارج القنوات النظامية.
تكشف القضية الأخيرة التي عالجتها مصالح الشرطة القضائية بالبليدة -والتي تورّط فيها شخص استغل غطاء الاستعمال المهني للحصول على مركبات نفعية ثم إعادة طرحها بأسعار مرتفعة- عن جانب من الأساليب المستجدة داخل هذه السوق المتقلبة، في وقت تكثّف فيه الدولة جهودها للحد من المضاربة وملاحقة الممارسات الاحتكارية التي تمسّ التوازن الاقتصادي وتؤثر مباشرة على القدرة الشرائية للمواطن، ضمن مسعى أشمل لإعادة الانضباط والشفافية إلى هذا القطاع الحيوي.
سوق السيارات تحت الضغط.. كيف تتشكل بيئة المضاربة؟
تعيش سوق السيارات في الجزائر حالة من التوتر المستمر بفعل تداخل عوامل عدة، أبرزها محدودية العرض وارتفاع الطلب بشكل يفوق القدرة الاستيعابية للمتعاملين. هذا الاختلال خلق فراغا تستغله بعض الأطراف لتحقيق مكاسب سريعة، خصوصا مع عودة العلامات العالمية بوتيرة تدريجية وعدم استقرار مستويات التزويد، ما يجعل أي دفعة من المركبات قابلة لأن تتحول إلى مادة للمضاربة فور دخولها السوق. ومع تقلص العرض مقارنة بحجم الطلب المتزايد، يرتفع هامش المناورة أمام المضاربين الذين يجدون في الظرف العام بيئة ملائمة للتحكم في أسعار المركبات الجديدة. فكلما زادت الندرة، أصبحت عملية تسجيل الطلبات أو اقتناء السيارات عبر قنوات مهنية أو تجارية مدخلا لجني أرباح مضاعفة، الأمر الذي يغذي دائرة الاحتكار ويعمّق الفجوة بين السعر الرسمي وسعر إعادة البيع. كما ساهمت الطبيعة الانتقالية التي تمر بها سوق السيارات، سواء على مستوى ضبط الواردات أو انطلاق المصانع المحلية، في خلق حالة من عدم اليقين يستغلها البعض لرفع الأسعار وتوجيه السوق وفق مصالح ضيقة. ويستفيد المضاربون من هذا الغموض في رسم توقعات زائفة لدى المستهلكين، فيدفعونهم إلى شراء المركبات بأسعار مبالغ فيها خوفًا من مزيد من الارتفاع. وتكشف هذه التطورات، أن المضاربة لا تظهر فجأة، بل تتغذى من بيئة اقتصادية متقلبة، ومن فجوات تنظيمية تمنح مساحات للحركة غير القانونية. ومع ذلك، فإن معالجة جذور المشكلة تتطلب فهم هذه السياقات المتشابكة، وهو ما تحاول الدولة التكفل به عبر إجراءات رقابية وتشريعية تستجيب لطبيعة المرحلة، تمهيدًا للانتقال نحو سوق أكثر استقرارًا وشفافية.
استغلال غطاء الاستعمال المهني.. آلية جديدة للمضاربين
أفرزت التحقيقات الأخيرة التي باشرتها فرق مكافحة الجرائم الاقتصادية أسلوبًا متكررًا لدى بعض المضاربين يتمثل في استغلال صفة “الاستعمال المهني” للحصول على مركبات جديدة بكميات معتبرة، مستفيدين من التسهيلات الممنوحة للأنشطة التجارية المعتمدة. فطلبية رسمية قد تبدو في ظاهرها قانونية تتحول في الواقع إلى بوابة لاقتناء سيارات بهدف إعادة بيعها في السوق بأسعار تفوق السعر الأصلي بكثير، وهو ما يكشف تطورًا في آليات المضاربة وتحوّلها من عمليات فردية محدودة إلى أساليب أكثر تنظيمًا ودقة. ويعتمد هذا النوع من الممارسات على ثغرات في منظومة التوزيع، حيث يتم الحصول على المركبات عبر قنوات رسمية باعتبارها موجهة لاستغلال مهني مهيكل، ليتبيّن لاحقًا أنها أعيد طرحها للتداول في سوق غير نظامية. ويستغل المضاربون السرعة في إعادة البيع قبل أي عملية رقابة، مستفيدين من حالة الندرة ومن توقعات المستهلكين بارتفاع الأسعار، ما يجعل المركبات تتحرك بسرعة بين عدة أطراف دون المرور بالمسار التجاري العادي. وتكشف مثل هذه القضايا عن محاولة بعض الشبكات الاتكاء على أطر قانونية صحيحة لتحويلها إلى أدوات لخلق هوامش أرباح غير مبررة، بحيث يصبح الغطاء المهني وسيلة لإخفاء عمليات المضاربة وإضفاء طابع شرعي على اقتناء عشرات السيارات دفعة واحدة. وتتكامل هذه الأساليب مع سوق موازية تتسع في الفترات التي تشهد نقصًا في المركبات، ما يعقّد مهمة ضبط الأسعار ويزيد من صعوبة مراقبة مسارات التوزيع. ورغم تعقّد هذه الآليات، فإن تتبعها يتيح فهم الطريقة التي تتحرك بها المضاربة داخل السوق، ويبرز أهمية تشديد الرقابة على الطلبات المهنية وتدقيق إجراءات التوزيع، خصوصًا في القطاعات الحساسة كقطاع السيارات. وفي هذا السياق، تشكل القضايا التي تعالجها المصالح المختصة نقطة ارتكاز لفهم الظاهرة وقطع المسارات التي تسمح بظهور شبكات إعادة البيع غير المشروعة.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للمضاربة على السوق والمستهلك
تنعكس المضاربة على سوق السيارات بشكل مباشر على الأسعار، إذ تؤدي عمليات إعادة البيع غير القانونية إلى خلق مستويات سعرية تفوق بكثير الأسعار المعلنة من قبل الوكلاء، ما يدفع المستهلك إلى مواجهة عبء مالي إضافي لا يعكس القيمة الحقيقية للمركبة. ومع استمرار هذه الممارسات، تتوسع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق، لتصبح عملية اقتناء سيارة جديدة تحديًا لعدد كبير من المواطنين، خصوصًا في ظل تزايد الطلب وتراجع العرض. ولا يقتصر تأثير المضاربة على الجانب المالي فحسب، بل يمتد إلى ثقة المستهلك في السوق النظامية. فعندما يعجز المواطن عن اقتناء سيارة بالسعر العادل، تتراجع الثقة في مسار التوزيع القانوني، ما يدفع البعض إلى اللجوء لسوق غير منظمة قد تعرضهم لمخاطر إضافية مثل غياب الضمانات أو الوقوع في عمليات نصب. وتساهم هذه الاختلالات في خلق بيئة غير مستقرة تزيد من هشاشة السوق وتعيق بناء علاقة شفافة بين المواطن والمتعاملين. كما تؤدي هذه الظاهرة إلى إرباك جهود الدولة الرامية إلى ضبط الأسعار وتحسين القدرة الشرائية، إذ إن أي إصلاحات أو برامج لدعم السوق تصطدم بممارسات احتكارية ترفع الأسعار بشكل اصطناعي. ويصعب في ظل انتشار المضاربة تقييم الأثر الحقيقي للسياسات الاقتصادية، لأن حركة الأسعار لا تعكس واقع السوق وإنما تتحرك وفق مصالح مضاربين يستغلون الظرف العام لفرض منطقهم التجاري. وتتجاوز الآثار البعد الاقتصادي لتشمل بعدًا اجتماعيًا يتمثل في شعور المواطن بالضغط وعدم المساواة في فرص الحصول على المركبات الجديدة. فبينما يحصل البعض على سيارات بأسعار رسمية، يُجبر آخرون على اقتنائها بأسعار مضاعفة بسبب الندرة، ما يوسع الفوارق ويؤثر على الاستقرار الاجتماعي. ومن ثم، فإن معالجة المضاربة ليست فقط مسألة اقتصادية، بل خطوة أساسية لضمان عدالة التوزيع واستعادة الثقة وتوفير شروط سوق متوازن يستفيد منه الجميع.
الدولة في مواجهة المضاربة.. أدوات الرقابة والتحقيق
تضع الدولة مكافحة المضاربة ضمن أولوياتها الاقتصادية، خاصة في القطاعات الحساسة التي تشهد إقبالًا واسعًا من المواطنين مثل سوق السيارات. وفي هذا السياق، تعمل الأجهزة الأمنية على تنفيذ عمليات رقابية دقيقة تستند إلى العمل الاستعلاماتي الميداني لرصد التحركات المشبوهة وتعقب مسارات المركبات منذ خروجها من الوكلاء إلى غاية وصولها إلى المستهلك. وقد سمحت هذه المقاربة الاستباقية بكشف العديد من الأساليب الاحتيالية التي يتبعها المضاربون، بما في ذلك استغلال الطلبات المهنية للحصول على مركبات ثم إعادة بيعها بطرق غير قانونية. وتلعب فرق مكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية دورًا محوريًا في تفكيك شبكات المضاربة، حيث تعتمد على تحقيقات معمقة تتضمن التدقيق في الوثائق التجارية، متابعة عمليات الدفع، والتحقق من التوجه الفعلي للمركبات، إضافة إلى التنسيق مع مختلف الإدارات للحد من الثغرات التنظيمية التي يمكن أن تُستغل. وتسهم هذه الجهود في رسم صورة واضحة عن الأساليب التي تعتمدها الأطراف المتورطة، ما يساعد على سد المنافذ التي تسمح بممارسات الاحتكار وخلق فوارق غير طبيعية في الأسعار. ولا تقتصر جهود الدولة على الجانب الأمني فقط، بل تشمل أيضًا إجراءات تشريعية وتنظيمية لتعزيز الشفافية في عمليات البيع والشراء. فقد تم سن قوانين تجرّم المضاربة وترفع من مستوى العقوبات، بما يشمل الغرامات والسجن، في خطوة تهدف إلى ردع الممارسات التي تستغل حاجة المواطن إلى اقتناء مركبة جديدة. وترتكز هذه التشريعات على بناء منظومة عادلة تحمي المستهلك وتضمن المنافسة الشريفة، مع تشديد الرقابة على الوكلاء وصيغ الطلبات المهنية لتفادي أي سوء استغلال. وإلى جانب المتابعة الأمنية والقانونية، تعمل الدولة على دعم الاستقرار في السوق عبر برامج اقتصادية تشجع على زيادة العرض، سواء من خلال تسهيل عودة الاستيراد أو دعم الاستثمار في الصناعة المحلية. وترتبط مكافحة المضاربة بشكل وثيق بهذه الجهود، إذ إن توفير عدد أكبر من المركبات وتوسيع الخيارات المتاحة للمستهلك يحد من فرص نشوء سوق موازية ويقلص من هامش الحركة أمام المضاربين. ومن ثم، فإن المواجهة ليست أمنية فقط، بل هي مسار شامل يدمج الرقابة، التشريع، والتنظيم في رؤية واحدة تهدف إلى استعادة التوازن داخل سوق السيارات.
أين تتجه الإصلاحات؟
يمثل ضبط سوق السيارات في الجزائر محورًا أساسيًا ضمن مسار إصلاح اقتصادي أوسع يستهدف إعادة الاستقرار إلى القطاعات الاستهلاكية الكبرى. وفي هذا الإطار، تتجه الدولة إلى اعتماد مقاربات جديدة تقوم على توسيع العرض وتنويع الخيارات المتاحة للمواطنين، سواء عبر تسهيل عودة العلامات العالمية أو دعم مشاريع التركيب والإنتاج المحلي. ومن شأن توفر عدد أكبر من المركبات في السوق أن يحدّ من فرص المضاربة، ويعيد الحركة التجارية إلى مسارها الطبيعي بعيدًا عن الارتفاعات المصطنعة في الأسعار. وتسعى الإصلاحات إلى تعزيز الرقمنة في عمليات التوزيع، من خلال وضع قواعد أكثر دقة لتتبع مسارات البيع والشراء، بما يسمح بالكشف المبكر عن أي اختلال أو عملية إعادة بيع مشبوهة. فالتحكم الرقمي في الطلبات المهنية، والربط المعلوماتي بين مختلف المتعاملين، يساهمان في غلق الفجوات التي تستغلها شبكات المضاربة، كما يعززان مبدأ الشفافية ويمنحان المستهلك رؤية أوضح حول آليات الحصول على المركبات والأسعار الحقيقية المعتمدة. كما تراهن الدولة على تقوية الإطار القانوني والتنظيمي لمنع استغلال الثغرات، من خلال تحديث النصوص التي تضبط العلاقة بين الوكلاء، الموزعين، والزبائن. ويشمل ذلك إعادة النظر في نظام الامتيازات الموجهة للاستعمال المهني، وتوضيح شروط اقتناء المركبات بكميات كبيرة، فضلاً عن تكثيف الرقابة على مسارات التوزيع لضمان احترام قواعد المنافسة الشريفة. ويأتي هذا التوجه ليعزز دور الجهات الرقابية ويجعله أكثر فاعلية في مواجهة الممارسات الاحتكارية. وفي ظل هذه التحولات، تبدو السوق مقبلة على مرحلة انتقالية تتطلب وقتًا لإعادة التوازن، لكن المؤشرات الحالية تعكس إرادة واضحة نحو بناء بيئة تجارية أكثر شفافية وانضباطًا. ومع استمرار الجهود الأمنية والقانونية والاقتصادية، تتبلور رؤية تهدف إلى حماية المستهلك، دعم التنافسية، وتحديث سوق السيارات بما ينسجم مع طموحات التنمية. وتؤسس هذه الإصلاحات لمرحلة جديدة يكون فيها الحصول على مركبة جديدة عملية عادلة تخضع لقواعد واضحة، بعيدًا عن المضاربة التي أثقلت السوق لفترة طويلة.