تعتبر معركة جبل عصفور التاريخية التي جرت أحداثها في 14 فيفري 1956، تحت قيادة الشهيد البطل عباس لغرور،
ودامت يومين، تكبد خلالهما المستعمر الفرنسي خسائر مادية كبيرة من أبرز الالتحامات التي جمعت جيش التحرير الوطني وقوات الاحتلال، ومن أهم معاركه التي لقن فيها درسا قاسيا للمستعمر.
وبلغت أهمية معركة جبل عصفور حدا دفع الحاكم العام للجزائر روبرت لاكوست، المعين آنذاك من قبل الحكومة الاشتراكية لـ “غي موليه” إلى معاينة سيرها على متن طائرة هيليكوبتر كان يستقلها، كما أكد الكثير من المجاهدين في ولاية خنشلة.
وحسب أحد مجاهدي المنطقة، تم خلال المعركة أسر ضابط فرنسي برتبة ملازم أول، مقابل سقوط 22 شهيدا في صفوف جيش التحرير الوطني، ناهيك عن مصرع العشرات من جنود العدو.
وسيظل الرقم 300 لعدد القتلى الفرنسيين في هذه المعركة الشهيرة، المعروفة أيضا بموقعة الزاوية، أو معركة «خناق لكحل»، محفورا إلى الأبد في اللوح التذكاري المنتصب بميدان الشرف، عرفانا بتضحيات الرجال وبطولات الجزائريين.
وحسب شهادات سابقة لمجاهدي المنطقة، فإن هذا الالتحام العسكري الأول جاء بقرار مسبق لجيش التحرير الوطني بعين المكان، إذ كان الأمر يتعلق حينها بنصب كمين خاطف لقوة عسكرية، ولهذا الغرض عقد اجتماع “الإدارة” تقرر فيه شن هذا الالتحام الهام مع العدو، وبعدما اتخذ القرار أمر الشهيد عباس لغرور المسنين والمرضى والجنود غير المسلحين باستغلال فترة الظلام للانسحاب ليحتفظ فقط بـ 70 رجلا مؤهلا بالفعل للقتال.
ووفاء لسمعته المتسمة بـ “التكتيك” والجرأة والشجاعة، فقد أخذ عباس لغرور قيادة إحدى أهم المجموعات المكلفة بنصب الكمين، حيث احتل مواقع محاذية جدا ومطلة على المسلك الرابط بين “تباردقة” و”سيار”، فيما توزعت باقي المجموعات عبر مرتفعات جبل عصفور بغية تغطية انسحابهم .
وفي هذا الموقع المكشوف والصخري وحيث الغطاء النباتي القليل، دوت أولى الرصاصات في السابعة صباحا حينما وجدت تشكيلة من العساكر الفرنسيين نفسها في مرمى نيران أسلحة الجنود الذين استطاعوا حينها أن يقضوا على ما بين 40 إلى 50 عسكريا فرنسيا، إلى جانب أسر ضابط فرنسي وغنيمة حصة هامة من الأسلحة والذخيرة.
وسقط في هذا الاشتباك الأول مجاهد واحد شهيدا في صفوف جيش التحرير، ثم تفاجأ المجاهدون بحشود عسكرية فرنسية صاعدة نحوهم من كل الجهات. وكانوا يتقدمون خاصة من جهة عين مشنين من وراء التلة التي نصبوا فيها مدفعهم الرشاش.
ولم تنقطع بعدها الطلقات النارية إلا في حدود الحادية عشر صباحا حينما ظهرت الطائرات المطاردة وهي تزرع الرصاص قبل أن تقرر الانسحاب بعد فترة خوفا من إصابة جنودها.
وحسب ذات الرواية، فإن ميدان المعركة كان مكشوفا للغاية لدرجة أن أيا كان يغادر مكانه تتم تصفيته ثم استؤنف إطلاق النار بشكل أكثر كثافة وجهنمية ليستمر الحال كذلك لغاية السابعة مساء مع حلول الليل الذي يحول دون أي رؤية .
وفي التاسعة ليلا، التقى المجاهدون الذين كتبت لهم الحياة مجددا من أجل تنظيم صفوفهم. وكان عباس لغرور مصابا في ساقيه، فقد أصيبت رجله اليسرى برصاصة، فيما أصابت شظايا متفجرة ساقه اليمنى، ثم حمله المدعو بن خلفة وهو رجل ذو بنية كبيرة أصله من زريبة الوادي ببسكرة فوق ظهره قبل أن يضعه بعد مسيرة طويلة على الأرجل فوق ظهر حمار تابع لمناضل تم اللقاء به.
وكان الجنود الفرنسيون قريبين جدا من المجاهدين، لكن كثافة نيران المجاهدين الذين تدعمت صفوفهم في ذلك اليوم بإمدادات بشرية أوفدها مركز واد العلاق قرب جبل الجرف كانت تجعل أي عسكري فرنسي يجرؤ على التقدم عرضة للقتل والسقوط فورا، ويومها سقط الكثير منهم.
وفي اليوم الثالث من المعركة وحينما كان المجاهدون يتوقعون المزيد من الهجمات فوجئوا بصمت الجبال الخالية تماما من أي تواجد للعدو. وكان ذلك بالتأكيد إيذانا بانتهاء معركة عظيمة وحصول نصر كبير.