إِنَّ الفسادَ بمفهومه الشامل يعني انحرافا عما يأمرُ به دينٌ قويم؛ أو قانونٌ تواطأ عليه العقلاء في مجتمع، أو عرفٌ صحيح، ويشملُ الفكر والتَّشريع والأخلاقَ، وكلَّ جوانب الحياة من سياسةٍ واقتصاد واجتماع، وعليه فإن مَظَاهِرَ الفَسَادِ وَالشَّرِّ والانحراف فِي حَيَاتِنَا فَوْقَ العَدِّ وَالحَصْرِ، وَقَدِ انْبَرَى وَحْيُ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ قُرْآنًا وَسُنَّةً ـ لِمُقَاوَمَةِ كُلِّ مَظَاهِرِ الفَسَادِ، وَتَقْوِيمِ كُلِّ اعْوِجَاجٍ يَصْدُرُ مِنَ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ عَلَى مُسْتَوَى الأَفْرَادِ؛ أَوِ الجَمَاعَاتِ؛ أَوِ الدُّوَلِ؛ أَوِ الأُمَمِ؛ أَوِ الحَضَارَاتِ، وَمِنْ أَشْهَرِ مَظَاهِرِ الفَسَادِ: فَسَادٌ فِي منظومة الفِكْرِ والمعتقد، وَفَسَادٌ فِي منظومة التَّشْرِيعِ، وَفَسَادٌ فِي منظومة السُّلُوكِ والأخلاق، وَفَسَادٌ فِي منظومة السِّيَاسَةِ، وَفَسَادٌ فِي منظومة القَضَاءِ، وَفَسَادٌ فِي منظومة المَالِ، وَأَنْوَاعُهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ. ولا بَأْسَ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ أَشْهَرِ هذِهِ الْأَنْوَاعِ:
أَوَّلًا: فَسَادٌ فِي منظومة الْفِكْرِ وَالْمُعْتَقَدِ وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، كَالْإِلْحَادِ، وَتَأْلِيهِ الْأَشْخَاصِ، وَعِبَادَةِ الْهَوَى، وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ إِلَى أَخْطَرِهَا فَتْكًا بِعَقِيدَةِ الْإِيمَانِ النَّقِيَّةِ، وَنُصُوصُ الْوَحْيِ نَاطِقَةٌ بِهَا، فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: كَمْ مِنْ آيَةٍ تُحَذِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَصَايَاهُ السَّامِيَةِ: “وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيِّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِۖ إِنَّ اَ۬لشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٞۖ ” وَمَا أَكْثَرَ الْآيَاتِ الَّتِي شَدَّدَتْ فِي مَسْأَلَةِ اتِّخَاذِ الْهَوَى آلِهَةً تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَقَالَ تَعَالَى “أَفَرَٰٓيْتَ مَنِ اِ۪تَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَو۪يٰهُ وَأَضَلَّهُ اُ۬للَّهُ عَلَيٰ عِلْمٖ وَخَتَمَ عَلَيٰ سَمْعِهِۦ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَيٰ بَصَرِهِ غِشَٰوَةٗ فَمَنْ يَّهْدِيهِ مِنۢ بَعْدِ اِ۬للَّهِۖ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَۖ “.
ثَانِيًا: فَسَادٌ فِي منظومة التَّشْرِيعِ وَقَدْ مَثَّلَ لَهُ الْوَحْيُ الشَّرِيفُ بِتَشْرِيعِ مَا يُخَالِفُ هَدْيَ السَّمَاءِ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً: مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَإِبَاحَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ الْخَبَائِثِ، كَمَنْ يُشَرِّعُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ، اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ نِظَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْإِرْثِ قَدْ ظَلَمَ الْمَرْأَةَ؛ وَبَخَسَهَا حَقَّهَا، فَقَالَ تَعَالَى وَاصِفًا رُهْبَانَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ شَرَّعُوا لِلنَّاسِ مَا يُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ “اَ۪تَّخَذُوٓاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمُۥٓ أَرْبَاباٗ مِّن دُونِ اِ۬للَّهِ وَالْمَسِيحَ اَ۪بْنَ مَرْيَمَۖ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُوٓاْ إِلَٰهاٗ وَٰحِداٗۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ سُبْحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشْرِكُونَۖ” رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَة “اَ۪تَّخَذُوٓاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمُۥٓ أَرْبَاباٗ مِّن دُونِ اِ۬للَّهِ” قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ.
ثَالِثًا: فَسَادٌ فِي منظومة السُّلُوكِ وَالْأَخْلَاقِ إِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لِآيِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ يَجِدُ حَيِّزًا كَبِيرًا خُصِّصَ لِمُعَالَجَةِ انْحِرَافِ السُّلُوكِ، فَكَمْ مِنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ ذُكِرَ فِي نُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ وَالزَّجْرِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مُحَذِّرًا مِنْ خُلُقِ الِاخْتِيَالِ وَالْكِبْرِ: “وَلَا تَمْشِ فِے اِ۬لَارْضِ مَرَحاًۖ اِنَّكَ لَن تَخْرِقَ اَ۬لَارْضَ وَلَن تَبْلُغَ اَ۬لْجِبَالَ طُولاٗۖ كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهاٗۖ “. وَزَاجِرًا عَنْ آفَةِ السُّخْرِيَةِ: “يَٰٓأَ يُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٞ مِّن قَوْمٍ عَس۪يٰٓ أَنْ يَّكُونُواْ خَيْراٗ مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَس۪يٰٓ أَنْ يَّكُنَّ خَيْراٗ مِّنْهُنَّۖ وَلَا تَلْمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالَالْقَٰبِۖ بِيسَ اَ۬لِاسْمُ اُ۬لْفُسُوقُ بَعْدَ اَ۬لِايمَٰنِۖ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ “.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر