وَمَعَ هَذِهِ الْمَكَانَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَنَحَتْهَا الشَّرِيعَةُ لِلْعَقْلِ إِلَّا أَنَّ ثَمَّةَ ضَوَابِطَ لِعَمَلِهِ حَتَّى يُحَافِظَ عَلَى مَسَارِهِ الصَّحِيحِ، تَحْمِيهِ مِنَ الِانْحِرَافِ، أَهَمُّهَا:
- عَدَمُ مُعَارَضَةِ مَعَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ: فَإِذَا وَصَلَ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ -بِقُدُرَاتِهِ الْمَحْدُودَةِ- إِلَى نَتِيجَةٍ تُنَاقِضُ نَصًّا قَطْعِيًّا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ، لِأَنَّ الْعَقْلَ قَاصِرٌ عَنْ إِدْرَاكٍ كَامِلٍ لِلْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: ” وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” الإسراء: 85.
- الِالْتِزَامُ بِالْمَنْهَجِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ: وَذَلِكَ بِتَجَنُّبِ التَّعَصُّبِ لِلْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَالْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ الْمُسْتَنِدِ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، قَالَ تَعَالَى: “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ” الإسراء: 36.
- التَّوَاضُعُ الْعِلْمِيُّ وَعَدَمُ ادِّعَاءِ الْكَمَالِ: فَالْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ لَهُ حُدُودُهُ، وَالْإِقْرَارُ بِهَذِهِ الْحُدُودِ هُوَ مِنْ صَمِيمِ الْعَقْلَانِيَّةِ؛ قَالَ تَعَالَى: “وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” يوسف: 76. وَلَمَّا كَانَتْ مَكَانَةُ الْعَقْلِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ وَالْخُطُورَةِ، كَانَ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مَنْهَجًا فِي الْحِفَاظِ عَلَى الصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةِ تَضْمَنُ سَلَامَتَهُ وَحَيَوِيَّتَهُ وَنَمَاءَهُ، مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ:
أولها طَلَبُ الْعِلْمِ: فَالْتَعَلُّمُ يُغَذِّي الْعَقْلَ وَيُوَسِّعُ مَدَارِكَهُ، وَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. بالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْكَوْنِيِّ: فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يُوَجِّهُ الْعَقْلَ بِاسْتِمْرَارٍ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِ الْكَوْنِ وَهَذَا مَا يُنَمِّي الِاسْتِدْلَالَ الْمَنْطِقِيَّ وَالتَّحْلِيلَ السَّبَبِيَّ لِلْوُصُولِ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَالْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” آل عمران: 190. وَقَدْ حَثَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي عَشَرَاتِ الْآيَاتِ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالنَّظَرِ فِي سُنَنِ التَّارِيخِ، مِمَّا يُقَوِّي مَلَكَةَ التَّفْكِيرِ وَعَمَلَ الْعَقْلِ. وأخيراً بالتَّدَبُّرِ التَّشْرِيعِيِّ: فإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ تَعْنِي إِعْمَالَ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ الْمَقَاصِدِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ. وَهَذَا يُطَوِّرُ مَهَارَةَ التَّحْلِيلِ الْعَمِيقِ لِلنُّصُوصِ وَاسْتِخْرَاجِ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْأُصُولِيَّةِ. ولَمَّا كَانَتْ مَكَانَةُ الْعَقْلِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ وَالْخُطُورَةِ، كَانَ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مَنْهَجًا فِي الْحِفَاظِ عَلَى الصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةِ تَضْمَنُ سَلَامَتَهُ وَحَيَوِيَّتَهُ وَنَمَاءَهُ، مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ: طَلَبُ الْعِلْمِ، وَالتَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ الْكَوْنِيُّ وَالتَّشْرِيعِيُّ.
الجزء الثاني من خطبة الجمعة من جامع الجزائر