جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مرحلةٍ من أشد مراحل الفساد في الأرض والإفسادِ في الحياة، كيف؟
عقائديًّا: كانت عبادة الأوثان من دون الله: ” مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ” الزمر: 3، وكان هناك أكثر من ثلاثمائة وستين صنمًا حول الكعبة. نصبوا الأصنامَ حول البيتِ الحرام، وعاثوا في الأرض فسادًا، وفي أماكن أخرى كان هناك عُبَّاد النار، وعبَّاد الشجر والحجر، وعبَّاد الكواكب، وعبَّاد البقر.
اجتماعيًّا: كان الظُّلم للمرأة في كبرها، ووَأدها في صغرها؛ ” وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ” التكوير: 8، 9. وكان الإنسان يُباع ويشترى في سوق النخاسة والعبيد، فضلًا عن انتشار الزِّنا بأنواعه المختلفة!
اقتصاديًّا: شاع التعامُل بالرِّبا، واحتكار فِئة قليلة للمال، وحرمان باقي المجتمع، في طبقيَّةٍ بغيضة؛ ليسَتْ فقراء وأغنياء، بل سادة وعبيد!
سياسيًّا: احتكارٌ للسُّلطة بين بعض زعماء القبائل في عصبيَّة مقيتة، أفسدَت القِيَم والأخلاق، ولا يحكمها سوى الكِبر والصلف والغرور. ولقد نتج عن هذه المنظومة المختلَّة أن دخلَت العربُ في حروب طاحِنة، استمرَّت سنوات طويلة لأَتفه الأسباب؛ مثل داحس والغبراء. والواقع الخارجي للعرب كان واقعًا مهينًا؛ حيث القوى العظمى من بلاد فارس وبلاد الروم تستذلُّ القبائلَ العربيَّة قاطبة، وما أشبه الليلة بالبارحة! بين هذا الحال المؤسِف والواقعِ المرير، يَخرج الأملُ متمثلًا في مولد خير البَريَّة صلوات ربي وسلامه عليه، الأمل في تَغيير هذا الواقع ورَفع المعاناة عن كاهِل البشريَّة، وظهور دعوة الإسلام تسعى في تَقديم الخير للنَّاس في كل نواحي الحياة؛ عقائديًّا واجتماعيًّا، وسياسيًّا وأخلاقيًّا.
هذه الأحوال التي كانت تَعيشها البشريَّة قبل ميلاد النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم تتشابَه إلى حدٍّ كبير مع الفَترة التي نعاني منها في واقِعنا المعاصر؛ حيث انتشار العُري والميوعة، والاحتكارِ والظُّلم، والكذب والنِّفاق، والخداعِ والخيانة، ومجابهة هذه الأمراض كلها تَبعث الأمل من جديدٍ، وها هي البُشريات نتنسَّم منها طلائع التغيير والإصلاح الذي نَنشده للأمَّتين: العربيَّة، والإسلامية.
نعم، قد تَشتدُّ الأمور سوءًا وتزداد ظُلمَة اللَّيل، لكن يَبقى الأمَل والثِّقة في الله عزَّ وجل ناصر المستضعفين، والمدافِعِ عن عباده الصَّالحين المصلحين، فالله تعالى يُخبرنا في القرآن الكريم بنَصره لعباده: ” كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ” المجادلة: 21، وقال: ” إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ” غافر: 51. لذلك يتوجَّب علينا بداية بِناء الروح؛ بالصَّلاة والقرآن، وبناء الثِّقة؛ بالصِّدق والإخلاص، وبناء الاقتصاد؛ بالعمل والأمَل، والقضاء على الفساد ودَحر المفسدين؛ فلا يحتكر القوتَ محتكِرٌ، ولا يتحكَّم في أقوات الناس وأسعار السِّلَع أصحاب الأغراض، وأغنياء الحرب، ومنتهِزو الأزمات.



