إِنَّ دِرَاسَةَ مَعَالِمِ رِسَالَةِ الإِسْلَامِ فِي التَّعْلِيمِ لتُقَدِّمُ دُرُوسًا عَمِيقَةً يُمْكِنُ الاسْتِفَادَةُ مِنْهَا فِي العَصْرِ الحَدِيثِ. وأَوَّلُ هَذِهِ الدُّرُوسِ هُوَ ضَرُورَةُ التَّكَامُلِ بَيْنَ العُلُومِ، حَيْثُ يَنبغي إرساخُ المَنْهَجِ الَّذِي يَرْبِطُ بَيْنَ العُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ، وَيُنْهِي حَالَةَ الفَصْلِ الَّتِي أَوْجَدَتْهَا الحَدَاثَةُ، وَالَّتِي أَدَّتْ إِلَى أَجْيَالٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ مَرْجِعِيَّتِهَا الرُّوحِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ. ثَانِي هَذِهِ الدُّرُوسِ هُوَ مَرْكَزِيَّةُ الأَخْلَاقِ فِي العَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ، فإِنَّ النَّمُوذَجَ الإِسْلَامِيَّ يُشَدِّدُ عَلَى أَنَّ العِلْمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالأَخْلَاقِ وَالعَمَلِ، وَأَنَّ العَالِمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً فِي سُلُوكِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ. فَالعِلْمُ بِلَا أَخْلَاقٍ قَدْ يَتَحَوَّلُ إِلَى أَدَاةٍ لِلْهَدْمِ والدّمارِ بَدَلَ البِنَاءِ والإعمارِ. أَمَّا الدَّرْسُ الثَّالِثُ، فَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ النَّهْضَة؛ إذلَمْ يَكُنِ التَّعْلِيمُ فِي الحَضَارَةِ الإِسْلَامِيَّةِ غَايَةً فِي ذَاتِهِ، بَلْ كَانَ وَسِيلَةً لِبِنَاءِ حَضَارَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى إِعْمَارِ الأَرْضِ وَخِدْمَةِ الإِنْسَانِ. هَذِهِ النَّظْرَةُ العَمَلِيَّةُ وَالوَاقِعِيَّةُ لِلتَّعْلِيمِ هِيَ مَا أَدَّتْ إِلَى الإِسْهَامَاتِ العِلْمِيَّةِ الكُبْرَى الَّتِي قَدَّمَهَا المُسْلِمُونَ لِلْإِنْسَانِيَّةِ ، وهَذَا النَّهْجُ هو ما يَضْمَنُ إِعَادَةَ رَبْطِ التَّعْلِيمِ بِالهُوِيَّةِ الحَضَارِيَّةِ، وَيُمَكِّنُ الطُّلَّابَ مِنْ مُوَاجَهَةِ الأَفْكَارِ وَالتَّيَّارَاتِ المُعَاصِرَةِ قال تعالى: “أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ” الأنعام: 90. إِنَّ رِسَالَةَ الْإِسْلَامِ فِي التَّعْلِيمِ لَيْسَتْ حِبْرًا عَلَى وَرَقٍ، بَلْ هِيَ مَنْهَجُ حَيَاةٍ وَعَمَلٍ. فَاجْعَلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ مَنَارَاتٍ لِلْعِلْمِ، وَحَفِّزُوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالتَّفَكُّرِ ، وَاجْعَلُوا مِنْ أَوْقَاتِكُمْ فُرْصَةً لِلتَّعَلُّمِ الْمُسْتَمِرِّ، فَالْعِلْمُ لَا يَعْرِفُ سِنًّا وَلَا يَحُدُّهُ مَكَانٌ ، فَلْتَكُنْ مَسَاجِدُنَا وَمُؤَسَّسَاتُنَا التَّعْلِيمِيَّةُ وَاحَاتٍ لِلْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقِ، نُرَبِّي فِيهَا أَجْيَالًا قَادِرَةً عَلَى حَمْلِ رِسَالَةِ أُمَّتِهَا، وَمُوَاجَهَةِ تَحَدِّيَاتِ عَصْرِهَا، فَالْعِلْمُ هُوَ سِلَاحُنَا الْأَقْوَى، وَبِنَاءُ الْإِنْسَانِ هُوَ مَشْرُوعُنَا الْأَسْمَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ. اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَزِدْنَا عِلْمًا وَعَمَلًا. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ، الصَّادِقِينَ فِي نِيَّاتِهِمْ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. وَمَتِّعْنَا اللَّهُمَّ بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا إِلَى النَّارِ مَصِيرَنَا.
الجزء الثالث والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر