لم يكن طريق الاستقلال معبّدا، ولا سبيل الحرية محفوفا بالورود، هو ما أكدته شهادة المجاهدات والمناضلات في صفوف “المالغ”، أهم تنظيم إبان الحرب التحريرية الكبرى، مجاهدات وضعن النعومة والأحلام الوردية جانبا وحملن بدل المرآة السلاح
وعوض الفساتين البدلات العسكرية، وانضممن لجهاز “المالغ” الذي تم تأسيسه بعد أن واجه أفراد جيش التحرير الوطني بالولاية التاريخية الخامسة صعوبة كبيرة في توزيع الأسلحة وحملها، وكذا في طريقة الاتصال بينهم وبين المشرفين عليهم، وتفاديا للمخاطر التي كان يقع فيها المسبلون الحاملون للرسائل والمعلومات، قرر البطل العربي بن مهيدي قائد المنطقة التاريخية الخامسة رفقة نائبه عبد الحفيظ بوصوف إنشاء هيئة خاصة أو مديرية لتكوين أفراد من جيش التحرير الوطني ليتولوا مهمة الإشراف على الاتصالات السلكية واللاسلكية لتسهيل مهمة الاتصال وكذا التنصت على وحدات الجيش الفرنسي لمعرفة خططه وإفشالها.
وبمناسبة الذكرى 62 لاندلاع ثورتنا المجيدة، نقدم لكم شهادات نادرة لمجاهدات فاعلات في وزارة التسليح والاتصالات العامة “مالغ”… هن بطلات الجزائر وفحلاته اللواتي فتحن قلوبهن وقدمن شهادتهن لتكون عبرة لأجيال لم تعرف مرارة الاستعمار بفضل تضحياتهن التي حفظها لهن التاريخ، فكتب أسماءهن بأحرف من لهب.
المجاهدة بريسكي خديجة: “لدى دخولي الجزائر حملت التراب وقبّلته فبكى الجميع”
تتحدث المجاهدة بريسكي خديجة زوجة بن ددوش بن عمر والمدعوة فضيلة من ولاية تلمسان تفاصيل من تاريخها الثوري وبعض صفحات النضال، فقالت:”التحقت بصفوف جيش التحرير الوطني مباشرة بعد الاضراب التاريخي للطلبة، وكنا نقوم في البداية بجمع المال والأدوية ثم تقدمنا بطلب الانضمام إلى “المالغ”، في البداية رفض المسؤولون انضمامنا لأنهم كانوا يعتبروننا صغارا، وكنت آنذاك إلى جانب المرحومة شلالي خديجة التي سألتني إن كنت فعلا سأنضم رسميا للجيش الوطني الشعبي، فأجبتها بالإيجاب، ولكن عندما سألتني إن كنت سأخبر والداي بالأمر أجبتها بالنفي لأني كنت الوحيدة وسط 6 ذكور..”، وتتابع حديثها :”كنا 8 فتيات و 9 ذكور من جماعة وجدة، تلقينا تكوينا عسكريا وسياسيا، تعلمنا من خلاله كيفية عقد الاجتماعات وإعداد التقارير وإجراء الرقابة وكذا التصويب بالأسلحة وعيوننا مغطاة، وكان بوصوف يوجهنا قائلا العدو في الأمام وفي الخلف وفي الشمال..
وأتذكر أن الرئيس الراحل هواري بومدين كان القائد، في حين كان بوصوف الكولونال، ولم يكن أحد يعلم بأن بوصوف يُكوِن مجموعة من الفتيات الشابات واستمر الأمر كذلك إلى غاية إجراء الامتحان، الذي كان صعبا، وفي المساء تلقينا حصة نظرية عن تاريخ الجزائر والأحزاب الوطنية.. ورافقت العقيد لطفي عند دخول الجزائر من وجدة، ولم تكن الأسلاك على الحدود موجودة آنذاك، ولهذا قطعنا الراية ودخلنا بلدنا وحينها ناداني الكولونال لطفي لأنني أصغرهم وأخبرني أننا على تراب الجزائر، فحملت التراب وقبّلته فانفجر الجميع بالبكاء”.
المجاهدة ويسي عوالي رشيدة: “عبد الحفيظ بوصوف منحنا تكوينا قاعديا وترك لنا المجال لننفجر ونقدم ما عندنا”
المجاهدة ويسي عوالي رشيدة زوجة مصطفى عوالي لم تتردد هي الأخرى في الإدلاء بشهادتها المليئة بالحقائق و الأحداث، تقول:”زاولت دراستي في الثانوية الفرنسية الإسلامية بالجزائر العاصمة، و عقب المشاركة في إضراب الطلبة التحقت مع عويشة بالثورة لأن مسارنا كان واحدا و مشتركا، وغادرنا العاصمة باتجاه مدينة تلمسان، ولأول مرة نقوم بذلك باعتبارنا ننتمي لأسر محافظة ترفض فكرة خروج الفتاة بمفردها، وهناك جرى الاتصال بيني وبين زميلة كانت معي في الثانوية من ندرومة، وأرسلت عون اتصال من جبهة التحرير الوطني إلى منزلنا و دق الباب ليسأل عني وأخبرني أنه مرسول من طرف زميلتي التي تعرض علي الالتحاق بصفوف “المالغ”، وهو ما كنت أتوق له فقبلت بعدما أعلمت والدي الذي تفاجأ ولم يتمكن من التنفس في الأول ثم تمالك نفسه وأخبرني أن حب الوطن من الإيمان وأنه لا يستطيع منعي من واجبي واشترط علي عدم اخبار والدتي و إخوتي، وبعدها بيومين التقيت بعويشة و سافرنا إلى مغنية و كنت أشعر بالفرحة و الشوق للقاء إخواننا في “المالغ”، في حين كانت عويشة تبكي طول الطريق لأنها كانت تعتقد أنها لن تعود لمدينتها تلمسان، وفي مغنية التقينا بزميلة الدراسة بن شنافي فتيحة ومكثنا عندها لمدة أسبوع ثم رافقنا الشخص المكلف بنقلنا إلى ندرومة ومكثنا لمدة أسبوع عند أنيسة درار، وأخبرنا ذلك المرافق أنه لو تم توقيفنا نقول بأننا بناته ثم أخذنا إلى حفير بالمغرب وتوجهنا إلى عائلة “عمر الغربي” وهناك التقيت بالبطل الرمز بوصوف، وأتذكر كيف توفيت عويشة، حيث استشهدت داخل غار عندما رفضت الخروج و الاستسلام، وقال بوصوف إن أول باخرة للجزائر أطلق عليها اسم فوزية، ونحن لم نكن حينها نسمع بـ “المالغ “، وكان بوصوف أول من بدأ تكوين وتأطير المنخرطات في المالغ، وتم تكويننا على أساس أن نكون مراقبات، ومن خلال التكوين تعلمنا الكثير على غرار إعداد التقارير وكان اختيار المسؤولين، و أقدم شهادتي للتاريخ عن رجل من القلائل هو عبد الحفيظ بوصوف الذي كان يتميز بميزات القادة، فهو رجل عبقري سار باستراتيجية مثيرة، حيث منح تكوينا قاعديا لشباب ثانوي وترك له المجال لينفجر ويقدم ما عنده.
المجاهدة رشيدة ميري: “تكوين بوصوف استثمرناه حتى بعد الاستقلال في حياتنا العملية”
المجاهدة رشيدة ميري، المدعوة العارم، بطولتها وشهادتها لا تقل أهمية عن رفيقات كفاحها، وهو ما تكشف عنه شهادتها المليئة بالإصرار والعزيمة على الكفاح لتحرير الوطن:”كل ما روته رفيقات الكفاح تقاسمنا حلوه ومره، حيث كنت إلى جانبهن و أتذكر أن عوالي هي من تحدثت إلى والديها، أما نحن فقد أخفينا أمر التحاقنا بجيش التحرير الوطني عن أسرنا… ما أريد قوله هو أن البطل بوصوف لقننا تكوينا عاليا استطعنا بفضله حتى بعد الاستقلال استثماره في حياتنا العملية، و لا أنسى يوم تسلمنا التكليف بمهمة وأطلقت علينا الأسماء المستعارة، وأخذنا تعليمات بعدم الكشف عن هويتنا حتى عن أقرب المقربين إلينا”.
المجاهدة بودوخة حجاج مليكة: “واجهنا المخاطر وتحدينا الصعاب مثل إخواننا المجاهدين”
حملت شهادة المجاهدة حجاج مليكة بودوخة المدعوة مسعودة الكثير من الإثارة، وعادت بذاكرتها الثورية إلى بداية التحاقها بصفوف جيش التحرير متحدثة بمشاعر فياضة وحب كبير للوطن، فقالت:”التحقت بالجيش الوطني الشعبي في 15 جانفي 1957، علما أني كنت قبلها منخرطة في الاتحاد الوطني للطلبة المسلمين الجزائريين منذ سنة 1956، أي عندما كنت طالبة في الطور الثانوي، ومن خلال إضراب سنة 1956 التحقت بجيش التحرير الوطني وكان للمجاهد بوصوف نظرة بعيدة وعميقة من أجل توظيفنا بشكل جيد في الولاية التاريخية الخامسة لخدمة الجزائر، وتلقينا تكوينا سياسيا وعسكريا على يده، وفي الليالي حضر بوصوف من أجل توجيهنا و كان في ذلك الاجتماع الرئيس الراحل هواري بومدين و مقران المدعو ناصر و تواتي أحمد الذي كان قائدا، وسرنا إلى منزل في وجدة وشاهدنا عند دخولنا ذلك المنزل بوصوف، هواري بومدين و العقيد لطفي الذي كان مثل الملاك، حيث أخبرنا أنهم كانوا بانتظارنا وهناك التقينا بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة و رشيدة عوالي وذهبنا مع قائد يسمى قنبل، وأشير إلى أن رشيدة ميري كانت في فوج الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في المنطقة الرابعة التي تمتد من مستغانم إلى غاية تنس…”، وتواصل المجاهدة بودوخة روايتها لحادثة مرورها بالمنطقة المحرمة عند دخولها التراب الوطني، وكانت المنطقة المحرمة آنذاك خالية من المنازل والمواطنين وهي تمتد على بعد نحو 20 كلم، وكان مفروضا علينا عبورها قبل طلوع الفجر حتى لا يُكشف أمرنا، وكنا نسير وراء من يعبر الأول خوفا من الدوس على القنابل والألغام المدسوسة، وكانت لدينا تعليمات تقول بأنه عندما نسمع صفارات التنبيه علينا الزحف وهناك من كان يعكف على حراستنا وعددِنا حتى لا يضيع أحد منا، وعندما نجحنا في عبورها أعطونا الماء والليمون والخبز الذي وضعناه في جيوبنا الذي كان كل مؤونتنا”.
عبد الصمد شلالي يمينة: “أبهرتني تضحيات المرأة الريفية التي لم ننصفها إلى يومنا هذا”
من جهتها، المجاهدة عبد الصمد شلالي يمينة لم تقل شهادتها عن شهادة أخواتها المجاهدات والتي قالت عن إحدى تجاربها إنها ضاعفت من إيمانها وشجاعتها ونهلت الكثير من الدروس:”تركت الأخت مسعودة، ورحلت أنا والمرحومة، تاركين منطقة تلمسان وكان يجب علينا أن نصل إلى المركز في سيدي بلعباس قبل طلوع الفجر، ويسمى بمركز سيدي قويدر الذي كان على رأس المركز رفقة زوجته، وعندما وصلنا كانت الساعة تشير إلى الواحدة أو الثانية صباحا وكانت زوجته في الحراسة في حين كان هو نائما، وبمجرد وصولنا سمعنا صوتا لم نعرف أنه لامرأة وطلبت منا كلمة السر فقال قائدنا “شمس” فطلبت منا الدخول وأيقظت زوجها وسلمته السلاح ليقوم بالحراسة، وكانت قد حضرت القهوة و الحليب وبعدما نزعت “القشابية” و رأيتها شعرت أنها مثل أمي وقلت كيف لامرأة تمسك السلاح وتسهر على الحراسة وتحضّر لنا القهوة، وهناك تساءلت أين أنا وكفاحي أمام عظمة هذه المرأة، صورتها لم تغادر ذهني ودائما أتساءل عن حق المرأة الريفية ونضالها وخاصة أنها لم تنصف ليومنا هذا”.
هكذا أقنعت البطل عبان رمضان بفعاليتنا
وتروي لنا المجاهدة سنوسي ويسي عوالي رشيدة حادثة لا تقل تعبيرا عن شجاعة وقوة الجزائريات، هي حادثة لقائها بالبطل عبان رمضان التي قالت عنها:”..كنت في الولاية التاريخية الخامسة و المنطقة الثالثة عندما التقيت البطل عبان رمضان وحينها لم أكن أعلم من يكون، وعندما عدت من مهمتي الرقابية قلت السلام عليكم، فقيل لي ادخلي لا تخافي وكان النقيب مرباح أبو النصر عون التحويل بالمنطقة الثالثة وثلاثة أشخاص آخرين وعرفت هناك أن النقيب الحبيب للمنطقة الرابعة ورشيدة ميري والمجاهد عبد العزيز بوتفليقة وعبان رمضان وسعد دحلب، وعندما دخلت عرّفني النقيب عليهم وقدمني على أنني مراقبة قدمت من الولاية الخامسة، وعندها قال عبان يا نقيب كيف تسمح للأطفال القيام بمهمة الرقابة، وكان سني حينها 18 سنة فتشجعت وخاطبته قائلة أني لست طفلة ولدي سلاحي تطوعت وتجندت لخدمة بلدي وتحرير وطني، فطلب مني إعطاءه سلاحي لكني رفضت التنازل عنه حتى أموت، و قلت له أعتذر سيادة النقيب سألتحق بالنسوة في الداخل، وقضينا الأمسية هناك وقدمنا لهم العشاء وفرحنا بهم، وفي الصباح و بما أننا تربينا و تكونا على يد البطل بوصوف، خرجت لأقول له مع السلامة وعندما صافحته أوصاني أن أبقى كما أنا مبديا إعجابه بي”.
نفّذت العملية التي لم يخطط إقحامي فيها بنجاح أبهر الجميع
وتروي المجاهدة ميري رشيدة أحد أهم محطاتها الراسخة وغير العادية في مسيرتها الجهادية وتقول:”سمعت بإحدى العمليات التي تهدف لتصفية أحد الخونة، أصريت على المشاركة فيها لأنني متدربة على فنون الحرب وتوجهت رفقة إخوة الكفاح وتفرقنا كل واحد في جهة، وأحد أعضاء المجموعة، نادى السيد الذي كنا سننفذ فيه العملية وأعطاه اسما لرجل يعرفه ويتعامل معه، فقام هذا الأخير وطلب منه كلمة السر حتى يخرج ويخاطبه يقول هذا حذاء رياضي أجاب و هو لا يدري مثلما شئت، عندها خرج الرجل و صوب السلاح نحوي ولحسن الحظ كنت أول من أطلق النار فسقط قتيلا، ولما تحول المكان إلى حالة طوارئ اختفيت وراء الخرفان حتى حضر الملازم واصطحبني، أما النقيب فقد فرح كثيرا لنجاحي في تنفيذ العملية، وقطعنا بعد ذلك مسافة نحو 30 كلم، وفي إحدى البيوت وجدت عجوزا تقبلني وتحضنني وتشكرني على نجاحي في تخليص المنطقة من شره، فشعرت بالفخر و الكثير من العزيمة على المواصلة حتى تحرير الوطن”.
كنا نحمل السم لاستعماله في الأوقات الحرجة
وتضيف بريسكي خديجة المدعوة فضيلة أن ما حدث معها لا يقل شأنا عن كل ما سردته الأخريات وينبض بالشجاعة والقوة والبسالة فقالت مسترجعة شريط ذكرياتها: “وصلنا إلى الخيام ولبسنا لباسا بدويا وكنت أطهو الطعام وأمشط شعر الأطفال، وكانت فرنسا تداوم على تمشيط تلك المنطقة للبحث عن المجاهدين والمجاهدات، وفي إحدى الأيام باغتونا وكنت أطهو الخبز فضربوا “الطاجين” بأرجلهم و أزاحوا تلك الخيمة عن طريقهم، فخرجت رفقة العجوز وكناتها وقمت بتوسيخ وجهي حتى لا يُكتشف أمري، لكن كلابهم بقيت تنبح و لم تبتعد عني فسألوني عن المنطقة التي جئت منها فقلت من المواصل فسألوني عن سبب تواجدي هنا فقلت لهم بأني متزوجة وعندما سألوني عن زوجي قلت أنه في السوق، وحتى العجوز قالت أنني كنتها و بالمناسبة أحيي تلك العجوز و أترحم على روحها فقد كانت مثالا لنضال المرأة البدوية، وعندما كان الجنود ذاهبين تقدم أحدهم مني للتحقق أكثر و لما أوشكوا على المغادرة عاد إلي و طلب مني ترك المكان، لأنه كشف هويتي و لم يرد أن يفضحني.. لقد سترني الله و كتبت لي حياة أخرى، ويجب أن أؤكد أنه بحوزتنا السم الذي كنا نحمله دائما لاستعماله في الأوقات الحرجة، كما أنه كان دائما هناك من يراقبنا عن بعد وكان قد أخبرني أنه إن تم القبض علي أنه سيفجر الشاحنة ويقتلني مع الجنود فقلت له إن الله سيحاسبه إن تركني أذهب معهم”.
الشهيدة “غرنوجة” أفقدت الفرنسيين أمل التغلب على الجزائر
وقالت المجاهدة شلالي في شهادتها عن رفيقة كفاحها الشهيدة غرنوجة:”لقد كنا طالبات مع بعضنا البعض واشتركنا في ذات المسيرة الثورية وشاركنا في الإضراب التاريخي، وكنت أنحدر من أسرة ثورية، حيث كان الأب والأخ مناضلين والبقية كانوا صغارا،
وفي حقيقة الأمر كان التحاقنا بالثورة 1956 وهنا طلبنا الالتحاق بصفوف الجيش لكن المسؤولين بالجيش رفضوا ذلك، وبتاريخ 15 جانفي 1957 وافقوا على ذلك إلى غاية لقائنا بالمركز، حيث كانت لدينا إرادة فولاذية وإيمان قوي وفعلا تلقينا الاستدعاءات التي ورد فيها أنه علينا الامتثال للأوامر في الوقت المحدد دون تسجيل أي تأخير، حيث حددت رحيل رحال وحجاج في حدود الخامسة والنصف، وأما بريسكي وقاديري في حدود الخامسة و45 دقيقة والأختين شلالي وميري على السادسة.
وطالب باحترام الوقت بين كل ثنائي واشترط عدم تكديس الأغراض وإحضار الضروريات فقط على غرار معجون وفرشاة الأسنان ومرآة صغيرة والملابس التي نحتاجها، ولا يجب أن ننسى شهداءنا الأبرار والعهد الذي قطعناه لهم، ويجب ألا ننسى تضحيات شهدائنا، وأشير في هذا المقام إلى كفاح غرنوجة الشهيدة البطلة التي كانت رفقة البطل الشجاع فراج الذي كان العدو يبحث بإلحاح وشراسة عنه في تلك المنطقة، وعندما تسربت معلومات تقول إن فراج في ذلك المركز، وهو في الحقيقة كان يتنقل مع بعض المجاهدين من مركز إلى آخر، وعندما طوق الجنود بعتادهم القوي المنطقة وعرف فراج أن النجاة مستحيلة، قرر تقسيم مجموعته إلى فوجين، فوج يضم غرنوجة، رحال مهدي وهو مراقب توفي بعد الاستقلال و3 مجاهدين، أما فراج فقد سار رفقة 5 مجاهدين وقاموا بعمل انفتاح ذكي وسط ذلك التطويق وتمكنوا من الفرار و الإفلات من جنود العدو من ناحية لم يكن فيها الضغط كبيرا، أما غرنوجة ومن معها بقوا صامدين ولم يستطع المستعمر التفوق عليهم إلا باستعمال الطائرة التي أنهت الأمر و استشهدت غرنوجة و من معها ببطولة منقطعة النظير… أصيب مهدي رحال بجروح بليغة، أما غرنوجة فرمت قبل استشهادها قنبلة يدوية لكي تربح الوقت و تقوم بحرق الوثائق التي كانت بحوزتها و رمت السلاح داخل البئر و صاحت بشجاعة مفتخرة “تحيا الجزائر” وسقطت شهيدة… ولما انتهى إطلاق النار ظن المستعمر أنه تم القضاء على فراج وتقدم قائدهم وضرب جثة غرنوجة بقدمه فسقطت قبعتها فانسدل شعرها الطويل فاندهش القائد الفرنسي على اعتبار أن المشادات بدأت منذ السابعة صباحا إلى غاية الواحدة زوالا و كان الضابط فراج رحل ونجا من قبضتهم، و ردد القائد الفرنسي أنه ما دامت امرأة واجهتنا بهذه البسالة، فلا تنتظروا أن تهزموا الجزائر، وقام الجنود الفرنسيون بحفر قبر لها، في حين التحق بسببها نحو 70 ممن كانوا يعملون مع فرنسا بصفوف جيش التحرير.
لما تسلمنا التكاليف بالمهمة، سرنا كالإخوة حتى وصلنا الى سي اعمر المسؤول عن اتحاد الطلبة، ولم نكن نعلم أن سي المبروك هو الاسم المستعار لبوصوف وأخبرنا سي اعمر أن القيادة نظمت للقائنا ..و أتذكر بوصوف الذي كان رجلا له هيبته ووقاره و بدأ يستنطقنا ليختبر درجة إيماننا، مستعرضا الظروف الصعبة في الجبال، الجوع ..العطش ..الأوساخ ..المبيت في العراء ..و قدم لنا صورة قاتمة وصعبة ليختبر مدى إصرارنا الذي أثبتناه له.