أحيت المرأة في غزة يومها العالمي، وهي تنسج خيوط تاريخها الحافل بيوميات التحدي والصمود، فصمود المرأة في غزة يبدأ في تفاصيل الحياة البسيطة، من رعاية أسرتها والتكفل بشؤون أفرادها الذي لا يكون بسيطا في ظل انعدام أبسط مقومات الحياة، إلا أن الغزاويات دائما لديهن خطط بديلة أذهلت العالم وحيرته.
جاء شهر رمضان على أهل غزة للسنة الثانية على التوالي وسط ظروف قاسية، بحيث يعيش أغلبية أهل القطاع بلا مأوى، سواء بين ركام بيوتهم وفي الخيام المهترئة بسبب الدمار الذي ألحقه الكيان الظالم بالقطاع.

وحلّ علينا رمضان ونساء غزة يتعرضن لأبشع واقع في ظل الصمت والعجز العربي والدولي عن حمايتهن، فالوجوه في غزة شاحبة، والأمراض هناك متفشية، والمياه شحيحة وملوثة، وبنى تحتية وبيوت مدمرة، ومجاعة تضرب أرجاء قطاع غزة من شمالها حتى جنوبها، ومستشفيات خارجة عن الخدمة، فيما يواجه مليون طفل صدمات يومية بينما تعاني النساء والفتيات من انعدام الأمن على جميع الأصعدة.
موائد إفطار فوق الركام

وحرصت سيدات غزة على تحضير موائد إفطار لأفراد أسرهن أو ما تبقى منهم، لكن اجتماع العائلات حول موائد الإفطار هذه المرة لم يكن داخل البيوت بل كان فوق أنقاضها المدمرة أو داخل خيام تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، ومع كل الصعوبات تجد المرأة في غزة طريقة ما للقيام بشؤون أسرتها وخلق جو رمضاني لم تستطع كل قوات المحتل الإسرائيلي إطفاء بريقه رغم كمية الدم والدمار.
تأكيد على البقاء رغم المأساة

تقف المرأة في غزة بكل قوتها لمساندة زوجها أو أبيها أو عائلتها بشكل عام، فلا تكلّ ولا تمل ولا تستسلم، فتخلق من لا شيء كل شيء، وهو ما أكدته الصور المنشورة لسيدات حرصن على تحضير موائد إفطار مرفوقة بالزينة المعتادة وبما أُتيح لها من إمكانيات، فرغم الدمار والخراب، تُحاول المرأة الغزاوية التمسك بالحياة، إذ علقت رفقة أفراد أسرتها الفوانيس على بعض ما تبقى من جدران بيوتهم المهدمة، ورسموا جداريات ملونة وسط الركام في محاولة لإضفاء بصيص من الأمل وسط الخراب، فكانت بحق رسائل صمود بعثتها مشاهد قوة وصمود الشعب الفلسطيني في مواجهة التحديات، وإصرارهم على الحياة والاحتفال بشهر رمضان المبارك رغم كل الصعاب ورغم كل ما عاشوه من حرب، كما حرصت السيدات على خلق أجواء روحانية لأطفالهن فبعد الإفطار، علت أصوات الأناشيد الدينية في المكان وسط فرحة الأطفال، في محاولة لاستعادة بعض من روحانية شهر رمضان الفضيل في قطاع غزة الصامد.
الزراعة لمواجهة الندرة

لم تقف المرأة في غزة مكتوفة الأيدي وتنتظر المساعدات التي يُعرقل الكيان الإسرائيلي وصولها، بل خمنت ووجدت حلولا بديلة لم يمنعها عنها شُح المياه، حيث ظهرت سيدة من غزة في أحد الربورتاجات وهي تهتم بمزروعاتها، حيث قامت بزراعة النباتات حول خيمتها في مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، فزرعت نبات البقدونس والجرجير والثوم، وقالت حول هذا إنها كانت تصحو باكرًا كل يوم لتجهيز الأرض وسقيها بالماء، ثم ذهبت بعد ذلك للسوق وقامت بشراء العديد من البذور النباتية، التي وجدت أن أسعارها غالية جدًا، إضافة إلى أنها رغبت في تشجيع أبنائها على العمل في ظل انقطاع الدراسة عنهم، ووجدت أن هذا المشروع الصغير قلّل من شعورهم بالخوف والقلق بسبب الحرب، فأصبحوا يتناوبون على جلب الماء من المنطقة القريبة للمخيم باستخدام الدلاء وري المزروعات كل يوم، وبحلول شهر رمضان الفضيل صارت هذه السيدة تستعمل عددا من هذه الأصناف في تحضير مائدة الإفطار لعائلتها في رمضان.
ولم تقتصر فكرة الزراعة على هذه السيدة فقط، بل هي فكرة مكررة لدى الكثير من ربات البيوت في غزة، حيث ظهرت في نفس الربورتاج سيدة أخرى قالت إنها حاولت محاربة الأسعار الجنونية للخضار بالطرق البديلة، فالزراعة ليست بسبب الحاجة لسد الجوع من خلال توفير الغذاء بل هي هواية وشغف وتسري في شرايينها، لأنها ترتبط بالأرض ارتباطًا عميقًا ووثيقًا وهو ما نشأوا عليه في غزة منذ الصغر، وقالت هذه السيدة إن فكرة الزراعة جاءتها عندما ذهبت يومًا لجلب الحطب من منطقة قريبة لإعداد الطعام لعائلتها وبالصدفة وجدت بعض الثوم البري فجلبته للبيت ومن هنا بدأت الفكرة، وهي الزراعة في الممرات وفي فناء الخيام لنأكل منها ونوزع على جيراننا بعدها قامت بشراء بعض البذور وزرعتها أيضا في الممرات القريبة، وحاليا صار لديها نباتات الفجل والثوم والسلق والملوخية والفول والطماطم والريحان والنعناع والزعتر.
الصمود الذي حيّر العالم وأربك الكيان

تعددت أوجه الصمود لدى المرأة في غزة، وكل واحدة وجدت خطة بديلة لمواجهة الواقع الذي أوجدته الحرب المجنونة على قطاع غزة، فقد ظهرت سيدة غزاوية قامت بشراء ماكينة خياطة بدائية تعمل من خلال بطارية تقوم بشحنها يوميا، قالت هذه السيدة إن متوسط عملها اليومي لا يقل عن 6 ساعات؛ وتقوم هذه السيدة بخياطة بعض الحقائب باستخدام القماش للنساء النازحات اللواتي يستخدمنها لوضع ملابسهن وأغراضهن داخل الخيام، وقالت إن الفكرة جاءتها بعد أن فقدت منزلها ومشغلها في مدينة غزة بسبب القصف الإسرائيلي للمنطقة، فحاولت أن تكمل عملها داخل خيمتها الضيقة، فسوء الحالة المادية والوضع العام دفعها للبحث عن فرصة لتوفير بعض المال لشراء الطعام والخبز وبعض المستلزمات لا سيما في ظل شح المعونات التي تصل إليهم.
من جهتها، سيدة أخرى كانت تعمل معلمة في إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) في مخيم الشاطئ بغزة، قالت إنها كانت قد وقّعت على عقد العمل السنوي في منتصف شهر أوت 2023م أي قبل الحرب بحوالي شهرين وكانت تذهب يوميا لممارسة عملها مع الطلبة في الصف الثالث الأساسي، وكانت تخطط لمستقبلها ومستقبل عائلتها لكن الحرب جاءت وقتلت كل أحلامها، ولم تعد تزاول عملها فقامت بعمل مشروع خاص يتمثل بشراء بطارية ولوح طاقة شمسية، ثم قامت بتصميم غرفة صغيرة لشحن الهواتف المحمولة باستخدام الطاقة الشمسية وهي الآن تحاول مساعدة ذويها في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
سيدة أخرى ونموذج آخر لصمود المرأة في غزة، هي سيدة لا يختلف حالها عن حال الأخريات من النساء، ورغم أنها كانت تعمل صيدلانية إلا أن فكرتها كانت بعيدة عن تخصصها الطبي، حيث عملت على تأسيس فريق من النساء النازحات يعملن في مجال تجهيز الخبز وبيعه، وقالت عن تجربتها إن ظروفها كانت صعبة خاصة وأن زوجها مريض ولديها العديد من الأطفال، ولا يوجد لديها مصدر رزق بسبب الحرب، وبما أنه كان هناك إغلاق للمخابز بسبب قلة الوقود بالتزامن مع قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف العديد من المخابز، جاءتها فكرة استغلال أوقات الفراغ لدى النساء النازحات، فقامت بالاستعانة ببعض منهن لبناء أفران طين بدائية الصنع ومن ثم أسّست فريقا من النساء اللواتي يتناوبن على عجن وتقطيع وإعداد الخبز وتجهيزه في أكياس للبيع، فيما تقوم بعض الفتيات بالمساعدة في بيع الخبز الجاهز بأسعار مناسبة وتوزيع الإيرادات على النساء العاملات.
