نَقِفُ الْيَوْمَ مُتَفَكِّرِينَ فِي نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْكَثِيرَةِ عَلَيْنَا، قَالَ تَعَالَى: “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ” إبراهيم: 34، هِيَ سِرُّ وُجُودِنَا الْإِنْسَانِيِّ وَتَكْلِيفِنَا الشَّرْعِيِّ: إِنَّهَا نِعْمَةُ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ نِعْمَةٍ، وَهِيَ أَحَدُ أَهَمِّ الضَّرُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْخَمْسِ فِي الْإِسْلَامِ ، بَعْدَ الدِّينِ وَالنَّفْسِ ، فِي زَمَنٍ تَتَعَاظَمُ فِيهِ الْأَسْئِلَةُ الْوُجُودِيَّةُ، وَتَتَفَاقَمُ فِيهِ التَّحَدِّيَاتُ النَّفْسِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، نبْرِزُ ملامحَ الْمَنْهَجِ الْإِسْلَامِيِّ الَّذِي يُقَدِّمُ الْإِطَارَ الْأَكْثَرَ تَكَامُلًا لِاسْتِغْلَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَوْجِيهِهَا وَالْحِفَاظِ عَلَيْهَا. لَا جَرَمَ أَنَّ نِعْمَةَ الْعَقْلِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ، إِذْ هِيَ أَدَاةُ التَّفْكِيرِ وَالتَّكْرِيمِ. قَالَ تَعَالَى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” الإسراء: 70، قَالَ سَيِّدِي الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الثَّعَالِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: “عَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ مَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْمَزَايَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا أَكْرَمَ بِهِ الْآدَمِيَّ؛ الْعَقْلَ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَفْهَمُ كَلَامَهُ، وَيُوَصِّلُ إِلَى نَعِيمِهِ”. وَمِنْ هُنَا جَاءَتْ تَعَالِيمُ الْإِسْلَامِ تُؤَكِّدُ عَلَى هَذِهِ الْمَكَانَةِ الرَّفِيعَةِ لِلْعَقْلِ، وَتَجْعَلُهَا مَنَاطَ التَّكْلِيفِ، وَتَرْسُمُ لَهُ مَنْهَجًا مُتَكَامِلًا يَحْفَظُهُ مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ، وَيَصُونُهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ، مَا يَنْعَكِسُ إِيجَابًا عَلَى الصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَسَعَادَتِهِ فِي الْآخِرَةِ. لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ شَأْنِ الْعَقْلِ وَجَعَلَهُ الشَّرْطَ الْأَسَاسِيَّ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ” أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَهُوَ وَسِيلَةُ الْمَعْرِفَةِ وَبِنَاءِ الْيَقِينِ؛ فَلَقَدْ جَعَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْعَقْلَ شَرِيكًا لِلنَّقْلِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَبِنَاءِ الْيَقِينِ، وَمَا أَكْثَرُ الْآيَاتِ الَّتِي تَدْعُونَا إِلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّعَقُّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” ص: 29، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”. فَالْعَقْلُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُصَدِّقٍ وَحَسْبُ، بَلْ هُوَ أَدَاةٌ مَعْرِفِيَّةٌ رَئِيسِيَّةٌ لِاسْتِخْلَاصِ الْحُكْمِ وَفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ، فِي انْسِجَامٍ تَامٍّ مَعَ النَّقْلِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي قَوَاعِدِ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ “فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَارَضَ صَرِيحُ الْعَقْلِ مَعَ صَحِيحِ النَّقْلِ”. فَالْمَصْدَرُ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،قال عزَّ مِن قائلٍ ” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” النساء: 82. وَهُوَ أَسَاسٌ لِمَعْرِفَةِ صِدْقِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ ابْتِدَاءً؛ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ قَالَ تَعَالَى: “إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ” يونس 6. ثُمَّ هُوَ رَكِيزَةُ الِاجْتِهَادِ الْفِقْهِيِّ، يَسْتَنْبِطُ الْأَحْكَامَ مِنَ النُّصُوصِ وَالْقَوَاعِدِ لِتَتَّسِعَ وَتَتَجَدَّدَ مَعَ تَجَدُّدِ النَّوَازِلِ وَالْأَحْدَاثِ، وَبِذَلِكَ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر