* القوة التي خرجت من رحم المعاناة والقهر
انطلقت انتفاضة 20 أوت 1955 بعد اندلاع الحرب التحريرية بأقل من عشرة أشهر في منتصف النهار وكانت بمثابة النفس الثاني للثورة الجزائرية والمنعرج الأول والكبير للمسيرة النضالية للشعب الجزائري، كما يراها الكثير من المؤرخين على أنها البداية الحقيقية للثورة وأكبر هجمات لجيش التحرير الوطني والأولى من نوعها، كما شكلت هجمات الشمال القسنطيني بقيادة الشهيد البطل زيغود يوسف، محطة “حاسمة” في مسار الثورة التحريرية المظفرة، قابلتها فرنسا الاستعمارية بانتقام وقمع وبطش لا مثيل لهم وأكدت من خلالها وحشيتها وإصرارها على ممارساتها الإجرامية في حق مدنيين عزل.
ولقد ساعدت هذه الهجومات، في تعزيز الدبلوماسية الجزائرية في المحافل الدولية لإسماع صوت الثورة المجيدة لتكون بذلك منعرجا حاسما في تاريخ هذه الثورة بتوسيع رقعتها وفك الحصار العسكري الذي كان مطبقا على الولاية التاريخية الأولى لتحقق الثورة بذلك نجاحا عسكريا باستهداف أهم قواعد الاحتلال فضلا عن رفع معنويات جيش التحرير الوطني بتحطيم أسطورة “الجيش الفرنسي الذي لا يقهر” وكذا تفنيد ادعاءات المحتل التي مفادها أن “ما كان يحدث هو مجرد أعمال تخريبية يقوم بها متمردون خارجون عن القانون”. وشملت جرائم القوات الفرنسية الاستعمارية منذ أن وطأت أقدامها الجزائر كل مناطق الوطن وراح ضحيتها كل فئات الجزائريين ويتضح جليا الدور البارز الذي لعبته منطقة الشمال القسنطيني، أو الولاية الثانية في السنة الأولى من عمر الثورة، حيث كانت من أقوى المناطق التي احتضنت أفكار الجهاد والتحرير والاستقلال. ورغم ما عانته هذه المنطقة من صعوبات لا سيما النشاط الواسع للقياد والخونة واستشهاد قائدها الأول ديدوش مراد في 18 جانفي 1955 بالإضافة إلى نقص الأسلحة، فقد استطاعت التكيف مع تلك الظروف الحرجة، خاصة مع حنكة قائدها الجديد الشهيد زيغود يوسف.
تحضير شبيه باندلاع الثورة

وقد اعتبر العديد من المختصين في تاريخ الثورة الجزائرية من بينهم الباحث في التاريخ والأدب ومدير جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية سابقا، الدكتور عبد الله بوخلخال، أن هجمات 20 أوت 1955 “تشبه كثيرا اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 من حيث ظروف التحضير لها، حيث تميزت بالسرية التامة والتخطيط الجيد والهبة الجماعية من أجل التحرر وشاركت فيها الأحزاب السياسية والحركة الوطنية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والكشافة الإسلامية الجزائرية”. وذكر ذات الأستاذ، المختص في سيرة البطل زيغود يوسف، أن الفرق الوحيد هو أن اندلاع الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954 كان في منتصف الليل في حين كانت انطلاقة هجمات 20 أوت 1955 في منتصف النهار وذلك ليثبت صناع ملحمة الشمال القسنطيني للمستعمر أن الشعب الجزائري بمختلف أطيافه مستعد للتضحيات الجسام من أجل تحقيق استقلال وطنه عكس ما حاولت فرنسا إقناع الرأي العام به بأن من فجروا الثورة مجرد فارين من السجن وهاربين من العدالة. كما ساهمت أحداث 20 أوت 1955 في إدراج “القضية الجزائرية” في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 سبتمبر 1955 بناء على طلب 15 دولة من أصل 29 شاركوا في مؤتمر باندونغ (إندونيسيا)، حسب ما ذكر به الأستاذ بوخلخال. وكان هدف قادة المنطقة التاريخية الثانية من انتفاضة 20 أوت 1955 هو الاستجابة لنداء شيحاني بشير، القائد المؤقت آنذاك لمنطقة للأوراس، الذي طلب المساعدة ومساندة أهالي المناطق المجاورة لفك الحصار عن الأوراس، لذا فإن هجمات 20 أوت 1955 عبرت عن الارتباط بين المنطقتين والتعاون والتنسيق ومحاولة فعلية لفك الحصار على الأوراس. ومن خلال تلك الهجمات، أراد قادة المنطقتين، حسب المجاهد موسى بوخميس، القاطن بمجاز الدشيش بولاية سكيكدة، الرد على السياسات الفرنسية والضغوط المفروضة على الجزائريين لإبقائهم محايدين إزاء القضية الوطنية، لذا قاموا بإشراك أكبر عدد ممكن من المواطنين في الثورة والمعترك الحقيقي، وذلك ما تجسد عمليا من خلال المواجهات المسلحة التي استهدفت 93 منطقة بالقرى والمدن الإستيطانية عبر ولايات قالمة وسكيكدة والطارف وقسنطينة. وأضاف أن “خطة هجمات 20 أوت 1955 أتت بنتائج إيجابية”، حيث تخلصت منطقة الأوراس النمامشة من الحصار الذي كان مفروضا عليها بعد أن انتقلت القوات الاستعمارية إلى الشمال القسنطيني لإخماد الانتفاضة الشعبية، فكانت الحصيلة استشهاد 12 ألف من الجزائريين منهم 6 آلاف بولاية سكيكدة، وقد عمدت قوات الاحتلال الفرنسي إلى قتل الجزائريين بطريقة وحشية ودفنهم أحياء بواسطة جرافة، يضيف المتحدث في شهادته.
دوار “السوادق”.. مهد النضال السياسي والعسكري لمهندس هجمات 20 أوت 1955
شهد المكان المسمى “دوار السوادق” شرق السمندو سابقا (بلدية زيغود يوسف حاليا) مولد البطل الرمز ومهندس هجمات 20 أوت 1955 زيغود يوسف، حيث ترعرع بها واكتمل نضجه الفكري ووعيه السياسي وسط القادة والمناضلين ديدوش مراد وبوشريحة عباس وبن غرز الله بلقاسم وبلوصيف علي الذين كانوا يسيّرون المنطقة الثانية ويعقدون لقاءاتهم بهذا المكان. وفي سنة 1938، تم تعيين زيغود يوسف قائدا لخلية حزب الشعب الجزائري في منطقة “كوندي سمندو” (بلدية زيغود يوسف حاليا)، حيث أشرف كذلك فيها على تنظيم مظاهرات 8 ماي 1945 قبل أن يلتحق سنة 1947 بالمنظمة السرية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية إلى أن اكتشف العدو الفرنسي أمره سنة 1950 وتم اعتقاله مع مئات المناضلين الجزائريين بسجن عنابة. واعتبر الأستاذ احسن ثليلاني، مدير مؤسسة زيغود يوسف، أن “السوادق” مدرسة استلهم منها صانع ملحمة 20 أوت 1955 العبر وقرر بها تنفيذ انتفاضة الشمال القسنطيني، حيث خطط بها أهم المحطات التحضيرية لهجمات 20 أوت 1955 خلال مؤتمر “الزامان” بمشاركة عدة مناطق من الشرق الجزائري. وفي يوم اعتقاله بسجن عنابة، فكر زيغود يوسف في طريقة للهرب قبل موعد محاكمته، فتمكن من صنع مفتاح لباب السجن، حيث حصل على قطعة حديد وصقلها على شكل مفتاح وتمكن من الهروب من السجن في ليلة 21 أفريل سنة 1951 رفقة ثلاثة مناضلين هم بركات سليمان وعمار بن عودة وعبد الباقي بخوش، يضيف المتحدث. وذكر الأستاذ بوخلخال، حادثة وقعت لزيغود يوسف حين آوى هذا الأخير إلى مزرعة عائلة بوخلخال بجبل الوحش (شمال بلدية قسنطينة)، فوصلت شاحنتان للجيش الفرنسي للبحث عنه ولما دخلوا المنزل سألوا عنه فأجابهم صاحب المزرعة أنه غير موجود رغم أنه كان واقفا أمامهم، بل وقام بتقديمه لهم على أنه شقيق زوجته، فنجا من عساكر فرنسا الاستعمارية التي كانت تبحث عنه لفراره من السجن سنة 1951. وخلال مؤتمر الصومام المنعقد في 20 أوت 1956 بمنطقة إيفري (بجاية)، لاحظ القادة عدم حضور قائد منطقة الأوراس مصطفى بن بولعيد، فتم تكليف زيغود يوسف بالتنقل إلى هذه المنطقة لمعرفة أسباب عدم حضور قائدها المؤتمر، يضيف الأستاذ بوخلخال. وفي أواخر شهر سبتمبر من نفس السنة، انطلق زيغود يوسف ومعه ثلاثة جنود إلى وجهتهم ففاجأتهم قوات الجيش الفرنسي بالمكان المسمى “الخربة” بمنطقة سيدي مزغيش (سكيكدة) في 25 سبتمبر 1956، حيث استشهد بعد أن قاوم جنود المستعمر.
المنشآت الحيوية ومراكز الشرطة أهم نقاط الاستهداف
في هذا الصدد، لا زال مجاهدون عايشوا تلك الأحداث يؤكدون أن هجمات الشمال القسنطيني استهدفت العديد من المنشآت الحيوية ومراكز شرطة ودرك الاحتلال عبر المدن ومزارع المعمرين بالقرى والأرياف ما سمح للمواطنين بالتعبير عن رفضهم الشديد للاستعمار ومساندتهم للقضية الوطنية ولجيش التحرير الوطني. وحتى وإن تميزت الفترة التي تلت استشهاد ديدوش مراد بهدوء مؤقت –حسب مجاهدين ومؤرخين– فقد ركزت المنطقة الثانية قبيل هجومات 20 أوت 1955 على التنظيم السري والسياسي من أجل ربح ثقة الشعب ومساندته لتكون لها أصداء بعيدة جدا عن الاستعمار الذي أصيب بخيبة كبيرة وأثر ذلك على نفسية جنوده الذين أصبحوا يرون في جيش التحرير الفزع الاكبر والخطر الداهم على حياتهم، ولذلك انتشرت بينهم روح التمرد والعصيان ضد الحرب في الجزائر ومقاتلة جيش التحرير لتواصل الثورة المجيدة بالمقابل زحفها وسيرها اثر انتصارات 20 أوت.
سرية تامة وروح عالية
واتسمت أجواء وظروف الإعداد لتلك الهجمات بالجدية والروح العالية والسرية التامة ما سمح باحترام الخطة المتفق عليها في اجتماع “الزمان” بالحدائق على بعد حوالي 4 كلم عن مدينة سكيكدة، حيث تمكن الثوار من تحطيم طائرات حربية كانت بالمطار وتخريب بعض المنشآت وقتل العديد من جنود العدو. ويقول الباحث والمؤرخ، حسن رمعون، في هذا المجال بأن هذه الهجومات “تحمل رمزية لا زالت في صميم الأحداث من منطلق تاريخها الذي يعتبر فارقا يقودنا إلى العملية الكبرى التي قام بها جيش التحرير الوطني في الشمال القسنطيني بهدف ضرب رمز القوة التي لا تدحر”. وفي رد فعلها عن تلك الهجمات الجريئة، استعملت قوات الاحتلال أساليب وحشية من خلال شنها حملة اعتقالات وقمع واسعة استهدفت آلاف المدنيين الجزائريين كما أحرقت المشاتي وقصفت القرى جوا وبرا. كما قامت كذلك بتسليح الأوروبيين فشكلوا ميليشيات فاشية وقتلوا مدنيين جزائريين عزل. وكان أبشع انتقام ارتكبته قوات الاحتلال مجزرة كبيرة في اليوم الموالي للهجوم بملعب فيليب فيل سابقا المسمى حاليا ملعب 20 أوت 1955 بسكيكدة، حيث تم حشر آلاف الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وقامت بإعدامهم، حيث ذهب ضحية الحملة الانتقامية للاحتلال والمليشيات الفاشية ما يقارب الـ12 ألف جزائري.
قمع الاحتلال الفرنسي سيظل وصمة عار

واعتبر رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في رسالة إلى الأمة بمناسبة الذكرى الـ75 لمجازر 8 ماي 1945 أن القمع الدموي الوحشي للاحتلال الاستعماري الغاشم، “سيظل وصمة عار في جبين قوى الاستعمار التي اقترفت في حق شعبنا طيلة 132 سنة، جرائم لا تسقط بالتقادم رغم المحاولات المتكررة لتبييضها، لأن عدد ضحاياها تجاوز الخمسة ملايين ونصف المليون ضحية من كل الأعمار، أي ما يمثل أكثر من نصف سكان الجزائر”. ووصف الرئيس تبون، في هذا المقام هذه الجرائم بـ”جرائم ضد الإنسانية وضد القيم الحضارية لأنها قامت على التطهير العرقي لاستبدال السكان الأصليين باستقدام الغرباء، كما قامت على فصل الإنسان الجزائري عن جذوره ونهب ثرواته ومسخ شخصيته بكل مقوماتها”. يشار إلى أن المادة 212-1 من قانون العقوبات الفرنسي تصف الجرائم ضد الإنسانية بما يلي “الترحيل (…) أو الممارسة المكثفة والمنهجية لعمليات الإعدام الفورية واختطاف الأشخاص المتبوع بالاختفاء أو التعذيب أو أفعال غير إنسانية بدوافع سياسية (…) منظمة في إطار خطة منسقة ضد السكان المدنيين”. ولم يلجأ المسؤولون الفرنسيون قط إلى هذه النص الذي “يتوافق تماما” مع ممارسات الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر والجرائم المرتكبة سابقا ابتداء من تاريخ الثامن ماي 1945 بسطيف وخراطة وقالمة ، مرورا بتداعيات هجومات الشمال القسنطيني الى غير ذلك –حسب مؤرخين فرنسيين–.
الاعتذار الرسمي لفرنسا عن جرائمها حق مشروع وغير قابل للتقادم
مطالبة فرنسا بالاعتراف بجرائمها إبان فترة الاحتلال (1830-1962) والاعتذار للشعب الجزائري، حق مشروع وغير قابل للتنازل، حيث يشدد القانون في هذا السياق على مسؤولية الدولة الفرنسية عن كل الجرائم التي ارتكبتها جيوشها في حق الشعب الجزائري، حيث جاء في المادة الـ5 من مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي الذي أعده نواب جزائريون، أن الأفعال الإجرامية “لا تتقادم وهي أشد الجرائم خطورة وهي الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب”. ويستدل أصحاب المبادرة، باعترافات عن تلك الأفعال والممارسات وردت على لسان مجرمي حرب فرنسيين منهم الجنرال بيجو والدوق دي روفيغو وسانت أرنو وبيلسي مونتنياك وبول أوساريس وشارل موريس وروول سالان وجان ماسي وايدمان جوهو الذين راحوا في الكثير من تصريحاتهم وكتاباتهم يتباهون ويتفاخرون بجرائهم ضد الجزائريين. وترى المحامية فاطمة الزهراء بن براهم، بأن معاهدة روما الموقعة في 17 جويلية 1998 التي تختص في قضايا جرائم الحرب “تتيح للجزائريين محاكمة جلاديهم بالأمس بأريحية تامة من منطلق أن هذه الجرائم وتلك المرتكبة من طرف الدول لا تسقط بالتقادم وفق ما هو متعارف به قانونا”. وتضيف المختصة في القانون الدولي، بأنه حتى ولو كان الفرنسيين يدفعون بأن نصوص معاهدة روما تم التوقيع عليها بعد عقود من طي صفحة الحرب بين الجزائر وفرنسا، إلا أن هذه القراءة –حسبها– “لا تستند إلى أرضية صلبة طالما أن المعاهدة سالفة الذكر فتحت المجال واسعا أمام متابعة مجرمي النازية التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية”. والمهم في هذا كله، أن ملف الذاكرة يبقى من النقاط البارزة التي ما فتئت تعكر صفو العلاقات الجزائرية-الفرنسية نظرا لاستحالة نسيان الجزائريين للجرائم الاستعمارية المقترفة، ومن المؤكد بأن الاعتراف بهذه الجرائم سيفتح أبوابا قانونية جديدة أمام باريس، حيث سيجدد الجزائريون مطالبتهم بالاعتذار الرسمي ودفع تعويضات للأهالي المتضررين. ولا تزال في هذا الصدد، أربعة ملفات مرتبطة بالحقبة الاستعمارية وما بعدها عالقة بين البلدين، حسب تصريحات سابقة لوزير المجاهدين وهي الأرشيف الوطني الجزائري الذي يضم ملايين الوثائق والتحف وترفض فرنسا إعادته للجزائر وملف استرجاع جماجم قادة الثورات الشعبية (قبل اندلاع الثورة عام 1954)، الموجودة في متحف الإنسان بالعاصمة باريس، وتم التعرف على هوية 31 جمجمة منها، إضافة إلى ملف مطالبة الجزائر بتعويض ضحايا تجارب نووية أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية بين 1960 و1966، أي حتى بعد الاستقلال بأربع سنوات وأخيرا ملف المفقودين خلال الثورة وعددهم 2200، حسب الأرقام الرسمية.
الهجومات بسكيكدة: رسالة مباشرة مفادها لا بديل عن الاستقلال

شكلت هجومات 20 أوت 1955 بولاية سكيكدة، رسالة مباشرة للمستعمر الفرنسي مفادها “أن الشعب الجزائري لا يريد بديلا آخرا عن الاستقلال من خلال الالتحاق الجماعي بصفوف جيش التحرير الوطني”، حسب ما أكده العديد من مجاهدي المنطقة في شهاداتهم. وأكد في هذا الصدد، المجاهد أحمد حفصي (86 سنة) في حديث لـ/وأج بأن “التنظيم المحكم لتلك الهجومات سمح باستهداف أماكن ومواقع حساسة للاحتلال جعل فرنسا تدرك بأنها أصبحت تواجه حربا فعلية بل والأكثر من ذلك أن الشعب الجزائري قد اعتنق الثورة”. وقال هذا المجاهد الذي ما تزال الأعمال الوحشية للمحتل الفرنسي عالقة في ذاكرته: “في الأيام التي أعقبت تلك العملية الواسعة لجيش التحرير الوطني كان رد فعل الجيش الفرنسي وحشيا وانتقاميا ضد الجزائريين كما قام بحجز بنادق الصيد التي كانت بحوزتهم”. وأضاف حفصي، بأن المجازر الجماعية التي اقترفها الجيش الفرنسي عبر عديد المواقع بالمنطقة لم يسلم منها لا الأطفال ولا الشيوخ. وأكد ذات المجاهد في شهادته، بأن “أهداف تلك الهجومات هي نقل الثورة إلى قلب المناطق المستعمرة بالشمال القسنطيني واستهداف قواعد الاحتلال وكسر الحصار الذي كان مفروضا على منطقة الأوراس وإبطال خرافة أن الجيش الفرنسي لا يقهر وأكاذيب الإعلام الفرنسي الذي كان يروج بأن الثورة مجرد أعمال معزولة من طرف من كان يسميهم بالخارجين عن القانون وقطاع الطرق”. ورغم مرور أكثر من ستة عقود، ما يزال حفصي الذي كان يبلغ من العمر وقتها 21 عامًا فقط يتمتع بذاكرة سليمة ويتمنى أن ينقل إلى الأجيال الشابة تاريخ الكفاح والتضحيات التي قدمها أسلافهم من أجل استعادة الاستقلال والحق في العيش بكل حرية وفخر على أرضهم.
وقال في ذات السياق: “في 19 أوت 1955 نزل المجاهدون من الجبال إلى القرى لتجنيد الجزائريين وجمع الأسلحة والذخيرة ثم تشكيل مجموعات كل واحدة لديها مهمة من بينها غلق الطرقات ونصب الكمائن”. وذكر نفس المجاهد كذلك، بأن “كل جنديين اثنين كانا يتلقيان الدعم والمساعدة من طرف 15 مدنيا وأن المجموعات التي تشكلت على هذا النحو كانت تحاصر مدينة سكيكدة من جميع النواحي بأحياء بوعباز والمحجرة الرومانية وباب الأوراس والسبع آبار بأحياء الزفزاف والقبية وباب قسنطينة”. ويروي المتحدث، الذي أوكلت له وللشهيد رشيد ساكر الذي كان عمره آنذاك 18 سنة ولمجموعتهما مهمة تفجير مبنى الاستعلامات العامة بشارع الواجهة البحرية بالقرب من القصر الأخضر أن “الشهيد زيغود يوسف ترأس بمنطقة الزمان الاجتماع التنسيقي لتلك الهجومات”. ولدى الوصول إلى سكيكدة عند باب الأوراس حوالي منتصف النهار رفقة مجموعته سمع حفصي إطلاق نار بحي الزفزاف، حيث تم تنبيه قوات الاحتلال بالهجوم. وأضاف حفصي الذي أكد بأنه وجد نفسه وحيدا رفقة ساكر يحمل القنبلة التقليدية الصنع “إن المدنيين الذين كانوا برفقتنا تعرضوا لإطلاق نار كثيف ففروا من كل الجهات”. واسترسل حفصي، أنه قتل شرطيا فرنسيا عندما وجه صوبهما سلاحه قبل أن يكون هو ورفيقه هدفًا لمدفع رشاش أجبرهما على الانفصال. وقد توجه ساكر نحو الميناء في حين اتجه حفصي إلى القصر الأخضر، حيث تشابك مع شرطيين لميليشيات الاحتلال فقتل أحدهما وأصاب الآخر بجروح قبل أن يتوجه عبر طريق قصر مريم عزة إلى جبال سيدي أحمد. وأكد هذا المجاهد، أنه شاهد الطائرات الحربية التي كانت تقصف منطقتي فلفلة والعالية، حيث كانت أعمدة الدخان تصعد إلى السماء كما أن إطلاق النار لم ينقطع بوسط مدينة سكيكدة وسط صراخ الجزائريين. ويتذكر حفصي، بأن 20 أوت 1955 كان يوم السبت، حيث يتم خلاله استبدال حراس الثكنات وأيضا يوم السوق الأسبوعي يقصده الكثير من المعمرين بوسط مدينة سكيكدة كما تزامن مع وصول باخرة قادمة من فرنسا. ولما أدرك خطورة الوضع قام جيش الاحتلال بمحاصرة مدينة سكيكدة، وشرع في إطلاق النار بدون تمييز صوب كل الجزائريين الذين صادفهم في طريقه حسب ما ورد في ذات الشهادة.
هجوم جريء قوبل بردود فعل وحشية
ولدى تطرقه لحصيلة الهجوم، أكد حفصي، أن “المجاهدين قد تمكنوا من تحطيم عدة طائرات حربية بالمطار، بالإضافة إلى بعض منشآت الاحتلال وقتل الكثير من عساكر العدو”. وأضاف هذا المجاهد، بأن “رد الفعل الفرنسي كان شرسا بشكل لا يصدق”، موضحا بأن “اعتقالات جماعية واسعة قد تعرض لها السكان المدنيون وأن آلاف الجزائريين شاهدوا منازلهم وهي تقصف بالطائرات والمدفعية”. وتذكر أيضا، أن “ميليشيات المعمرين قد تشكلت على الفور ونفذت سلسلة من المجازر ضد مدنيين عزل”، مؤكدا أن الأبشع من ذلك كان تجميع في اليوم الموالي من الهجوم آلاف الرجال والنساء والأطفال بملعب فيليب فيل (المسمى حاليا 20 أوت 1955″ وتم إعدامهم جماعيا”. كما اقترفت أيام 21 و22 و23 أوت 1955 مجازر رهيبة عبر مختلف بلديات وأحياء سكيكدة، حسب ما ذكره حفصي الذي أكد أن الجارفة التي ما زال يحتفظ بها أمام ملعب سكيكدة قد استعملت لحفر مقابر جماعية لدفن المدنيين الذين تم إعدامهم وحتى بعض الجرحى دفنوا أحياء”.
تخطيط مدروس يؤكد عبقرية النخبة
مؤتمرالصومام 20 اوت 1956.. محطة مفصلية ولبنة أساسية للجزائر المستقلة

لم يكن من السهل أبدا تنظيم مؤتمر الصومام في مقر يقع على بعد ساعة من موقع عسكري استعماري، وهو ما قال عنه الشهيد عبان رمضان أن تنظيم المؤتمر في إيفري كان “ضربا من الجنون”.
لكن نجاح المؤتمر، أكد جرأة ودهاء العقيد عميروش الذي فكر وخطط ونظم كل شيء حتى لا تتسرب المعلومات وتظل سرية للغاية من جهة، ثم حتى لا يحدث ما قد يزعج المؤتمرين من جهة ثانية. ومن أجل تشتيت انتباه قوات الاستعمار وتحويل اهتماماته إلى أماكن بعيدة عن منطقة إيفري أين كان يجري المؤتمر، ضاعفت وحدات جيش التحرير الوطني الكمائن والهجومات ضد قوات المحتل بعيدا عن المنطقة، وفي نفس الوقت، قطع جنود الثورة خط السكة الحديدية الرابط بين أقبو وإغزر أموقران، وقبل أسبوعين من انعقاد المؤتمر، صدر قرار بحظر التنقل من أو إلى منطقة إيفري. ونجح مخطط الشهيد عميروش في فرض “حظر تجول شبه كامل” فلم يكن التنقل من وإلى المنطقة مسموحا إلا في الحالات القصوى كحالات الوفاة -الجنائز- وكان الهدف من ذلك منع أي تسرب للأخبار، كما حرص الشهيد عميروش على أن يكون عدد الأشخاص الذين كانوا على دراية بانعقاد المؤتمر قليلا جدا وينحصر في مسؤولي المؤتمرين أنفسهم وقلة من المسؤولين المحليين. وحسب الباحثين في التاريخ فحتى أولئك الذين أوكلت لهم مهام خاصة في التخطيط لتنظيم المؤتمر لم يكونوا على دراية بما سيحدث. ورغم أنهم كانوا يشعرون بأن حدثا هاما هم بصدد التحضير له ولكن عدد الذين كان باستطاعتهم تخمين ما هو هذا الحدث كان قليلا جدا، ولهذا وبسبب السرية التي أحاطت بالمؤتمر جعلت من الصعب اليوم العثور على شهود أحياء يمكنهم تقديم تفاصيل عنه. ووصل إخفاء الحدث حتى على وحدات الثوار الذين تم حشدهم لحماية المكان” الذين لم يكونوا على علم بتنظيم المؤتمر، ونفس الشيء بالنسبة للأشخاص المكلفين بالإشراف على إعداد وجبات الطعام الذين كانوا يجهلون أيضا ما كان يحدث. هذا ولم يكن ضمان أمن مؤتمر الصومام مهمة سهلة لأنه بالإضافة إلى إيفري والمنزل الذي كان يجتمع فيه قادة الثورة الستة، فلم ينعقد المؤتمر من بدايته إلى نهايته في نفس المكان بل انتقل عبر 14 قرية بمنطقة أوزلاغن، لا سيما قرية تاوريرين، في مرحلة التحضيرات وكذا الاجتماعات”. وكان ذلك راجع إلى الثقة التي كانت سائدة في أوساط سكان منطقة أوزلاغن التي قدمت 1500 شهيد من أبنائها، وكانت كلها مساندة للثورة التحريرية لدرجة جعلت العقيد عميروش الذي يوجد مقر قيادته في أكفادو بجوار كريم بلقاسم، يتيقن أن لديه كل الضمانات لإنجاح المؤتمر الحاسم، خاصة وأن المكان كان مناسبا ويقع في منطقة جبلية يبلغ ارتفاعها حوالي 1000 متر، وتشكل شرفة تطل على وادي الصومام بأكمله، وكان بذلك يسمح بالهروب الفردي السريع إذا ما تعرض إلى هجمات جوية من قوات الاستعمار الفرنسي. وتكفل كل من حماي قاسي وعبد الرحمن ميرا وسي حميمي أوفاضل، تحت قيادة العقيد عميروش، بمتابعة الجانب الأمني بصرامة كبيرة وحاولوا عدم إهمال أي جانب قد يخل بالاجتماعات السرية للمؤتمر. وشارك في مؤتمر الصومام كذلك قادة كبار آخرون منهم سليمان دهيليس والقائد عز الدين وسي لخضر وعلي خوجة، وغاب عن الموعد التاريخي لأسباب قاهرة كل من مصطفى بن بولعيد الذي توفي في القتال قبل خمسة أشهر، وأحمد بن بلة، ممثل وفد جبهة التحرير في الخارج، لأنه لم يتمكن من دخول التراب الوطني وكذا علي ملاح الذي تعذر عليه بلوغ المكان فاضطر إلى إرسال ممثل آخر عن المنطقة الرابعة. واختتم المؤتمر، بتبني عدد كبير من القرارات، حيث صادق خاصة على إنشاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية ولجنة التنسيق والتنفيذ والتي وضعت الخطوط العريضة لإنشاء دولة عصرية. وكان نجاح مؤتمر الصومام كبيرا وكانت البهجة البادية على وجوه المشاركين فيه غداة اختتامه تدل بوضوح على ذلك، فلقد اختتم المؤتمر باستعراض عام في قرية تيمروين.
لمياء.ب