-
حالة استنفار “مُعبقة” بروائح “التوابل” و”ماء الزهر “
تشترك عائلات ولايات الوسط الجزائري في عدد كبير من عاداتها المتوارثة في استقبال شهر رمضان الفضيل، وهي العادات التي توارثتها العائلات جيلا بعد جيل، وصارت بمرور الزمن تُمثل “ريحة رمضان” التي يحسها الجزائريون مهما كانت أوضاعهم.
تبدأ بوادر شهر رمضان الكريم في الظهور بمجرد حلول شهر شعبان، إذ تبدأ التحضيرات انطلاقا من تنظيفات البيوت وشراء الأواني وصولا إلى الأسواق والحركة التي تعرفها في هذه الفترة.
تبييض الأحياء وتنظيف الأواني النحاسية

كان رمضان في ولايات الوسط في الماضي يكتسي أهمية قصوى، تظهر أسابيع قبل دخول الشهر الفضيل، ومن أبرز المظاهر التي تبين قرب استقباله، تسابق سكان الحي الواحد إلى تبييض الحي بطلاء جدرانه باللون الأبيض كدليل معزّة لهذا الشهر وعلامة على اكتمال النظافة لتليق بمقام هذا الشهر العظيم، وذلك باستعمال مادة “الجير”، فيما تتسابق النسوة من جهتهن في تنظيف المنازل وتحضير “عولة” الشهر. وإذا كان الرجال يحرصون على استقبال رمضان في نظافة تامة تظهر في الطلاء الأبيض باستعمال مادة الجير أياما قليلة قبيل قدوم الشهر الكريم، فإن النسوة يهتممن باستقبال رمضان أسابيع طويلة قبل موعده، وهو ما يظهر في إفراغ البيت من محتوياته وطلاء الجدران أو غسلها جيدا، وعادة ما يكون ذلك في أوائل شهر شعبان حتى يتسنى لهن الاهتمام بما تبقى من تحضيرات، ومن ذلك تنظيف الأواني النحاسية، هذه الأخيرة التي تعتبرها عائلات الوسط الجزائري مهمة للغاية، حيث كانت الأسرة الواحدة تجتمع وسط الدار على صينية مستديرة كبيرة من النحاس معروفة لدى العامة باسم “السْني”، وهو ما يُظهر أن شهر رمضان العظيم يُغير عادات الأفراد نحو الأحسن بفضل لمّته والقعدات التي تجمع الأهل والأصحاب.
أطباق رمضانية لا غنى عنها في طاولات الوسط الجزائري

أما “عولة رمضان” فيأتي التوابل على رأس قائمتها، حيث تهتم ربات الأسر بشراء البهارات على شكلها الطبيعي وغسلها وتجفيفها ثم طحنها يدويا حتى تحافظ على نكهتها الطبيعية، لأن أساس نجاح كل طبخة يعتمد على بهارات جيدة، وإلى جانب التوابل، فإن سيدة البيت لدى عائلات الوسط تحضر “الدويدة” أو “الفرميسال”، حيث تجتمع النسوة عادة لفتل كميات كبيرة منها، لإيمانهن أن تحضير مكونات الطبخات في المنزل يعطي الأطباق نكهات مختلفة.
وإضافة إلى كل ذلك، فإنه قد لا يخلو بيت من الفواكه المجففة على غرار الخوخ والمشمش والزبيب وهذا طبعا لتحضير الطبق الحلو، الذي يُعد من أهم الأطباق التي لا بد من وجودها على مائدة الإفطار، تماما مثل طبق الشوربة الذي لا بد أن يحضر في قدر من الفخار، فيما كانت باقي الأطباق الرئيسية تُحضر هي الأخرى في “التحميرة”، وهو طبق مصنوع من النحاس يضفي على الأطباق مزيدا من النكهة.
ومن الأطباق الرئيسية التي تحرص النسوة على تحضيرها خلال رمضان، هناك طبق “السْفيرية” المحضر أساسا من الخبز اليابس واللحم وهو معروف في منطقة الوسط، وهناك أيضا طبق “تزدام العازب” المحضر من لحم الدجاج المفتت والمخلوط بالبيض والمعدنوس ثم يرمد في الخبز اليابس ويشكل مربعات ويقلى ثم يوضع في مرق أبيض ويُحمر بالفرن. هناك أيضا طبق “البْنين” ويحضر بمقدار من اللوز مرحي ومثلها من البيض والخبز اليابس والجبن وبعض قطرات من الليمون ثم تشكل كويرات وتوضع أخيرا في مرق أبيض أساسه لحم أحمر أو أبيض، وهو طبق محبوب جدا كونه يمزج بين نكهتين الحلو والمالح. وهناك كذلك طبق “مْختن في حجر مّو” يحضر بكمية من اللحم المفروم الذي يُتبل ويشكل على شكل أصابع ثم يوضع في مرق لحم أحمر وحمص. إلى جانب تشكيلة واسعة من الأطباق التي ما تزال تحضر في رمضان تحديدا وما تزال معروفة إلى اليوم، على غرار “الكباب” و”المثوّم” و”الدولمة” وغيرها.
سهرات الوسط.. تُزينها الحلويات وتُنكهها “البوقالات”

أما السهرات الرمضانية فهي متشابهة لدى عائلات الوسط الجزائري، حيث تكون المائدة خلالها مُثقلة بأنواع الحلويات الرمضانية وعلى رأسها الزلابية وقلب اللوز بالشاربات وماء الورد المحضر في المنزل، وإلى جانبه أيضا مقروط العسل والصامصة، وطبعا الشاي الأخضر والقهوة، وتمتد السهرة أحيانا للسحور الذي يكون فيه طبق “الطعام بالزبيب” رئيسيا، وإلى جانبه القهوة بالحليب لمن يهواها، وهي العادات التي لم تتغير في المجمل، وهي ما تُشكل “ريحة رمضان”.
تبادل الأطباق.. عادة تعكس جود الجزائريين وكرمهم

ما تزال بعض عائلات الوسط الجزائري تتمسك بعادة تبادل الأطباق بين الجيران، وهي الميزة التي تطبع بشكل خاص الشهر المعظم، شهر الرزق والبركة، حيث تدق العديد من ربات البيوت باب جاراتهن ليقدمن لهن طبقا معينا مما حضرنه لعائلاتهن.
وهي عادة جميلة لم تمحها رياح العصرنة التي كادت أن تجعل الشخص يعتزل الحياة الاجتماعية التي كانت تطبع الحياة التقليدية التي عرفها أجدادنا، حيث كان الأسلاف قديما يعيشون في “أحواش” بها العديد من الأسر، يجمعها الاحترام والتقدير والوقار يفرض نفسه، الصغير يوقر الكبير والكبير يحترم الصغير، وكان لكل واحد مكانته الخاصة، والجميع يعيش في كنف عائلة كبيرة.
وحول هذا الموضوع، قالت “رزيقة” من القليعة إن عادة تبادل الأطباق تعود مع كل شهر رمضان الكريم، مشيرة إلى أن ذلك من الموروثات الشعبية والعادات التي كانت تحرص عليها العائلات، كتقليد جميل يجعل الجيران يشعرون بأنهم أسرة واحدة، لاسيما خلال شهر رمضان المبارك الذي غالبا ما يبحث فيه الفرد عن جو المحبة والأخوة والتقرب من الله، بإدخال البهجة إلى نفس القريب والصديق.
هذا التبادل، تضيف المتحدثة، هو تبادل حصة من الطعام تعدها الأسرة لمائدة الإفطار، وتخصص جزءا منها للجيران، وغالبا ما تكون من الأصناف التي تصنع من قبل ربة المنزل، كالخبز، البوراك، الكسكسي للسحور، أو أنواع مختلفة من العصائر التقليدية المحضرة في المنزل، كما يمكن أن تكون من الحلويات التقليدية الخاصة بشهر رمضان، كان قديما يتم تقديم المحضرة في البيت، إلا أن اليوم يمكن تقديم أيضا الحلويات التي تباع في المحلات، كقلب اللوز والقطايف وغيرها.
من جهتها، قالت السيدة “زهور”، من البليدة بأن هذه العادة القديمة لم تزل، وما يحدث من تبادل للأطباق خلال الشهر الكريم يثبت ذلك، بحيث تتسلم الجارة الطبق ساخنا خلال شهر رمضان، مشيرة إلى أن تلك العادة تتم قبل دقائق قليلة من الإفطار، حيث لابد أن يكون الطبق ساخنا، فتلك الأطباق لا تحمل فقط طعاما وإنما تحمل الكثير من معاني الكرم والجود والمحبة.
هذا، وأجمعت العديد من ربات البيوت اللواتي حدثناهن، بأن العادة في ذلك تكون بمبادرة إحدى الجارات، ومن اللبق رد تلك المبادرة بمبادرة أخرى، أي بمعنى إذا ما قدمت إحدى الجارات طبقا فيه أكلا معينا، على الجارة الأخرى إعادة صحنها لها يحتوي على طبق آخر، وليس من المفروض أن يتم في نفس اليوم، وإنما للجارة كل الأريحية في تحضير شيء في اليوم الموالي أو خلال الأسبوع لإعادة الصحن لصاحبته.
ل. ب