أنوار من جامع الجزائر

وليعفوا وليصفحوا – الجزء الأول –

وليعفوا وليصفحوا – الجزء الأول –

قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التِّبْيَانِ”يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٞ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ ” سورة الحشر:18.، أَلَا وَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَبَعْدُ: فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ “وَلَا يَاتَلِ أُوْلُواْ اُ۬لْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُّوتُوٓاْ أُوْلِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْۖ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَّغْفِرَ اَ۬للَّهُ لَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌۖ ” سورة النور:22. أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ: لَقَدْ وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي قِصَّةِ الإِفْكِ، مِنْ طَرِيقِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ”: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا الآيَاتِ العَشْرَ مِنْ سُورَةِ النُّورِ ” اِنَّ اَ۬لذِينَ جَآءُو بِالِافْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْ لَا تَحْسِبُوهُ شَرّاٗ لَّكُمۖ ” قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مُسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ –: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مُسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللهُ الآيَةَ: “وَلَا يَاتَلِ أُوْلُواْ اُ۬لْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُّوتُوٓاْ أُوْلِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْۖ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَّغْفِرَ اَ۬للَّهُ لَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌۖ ” سورة النور:22. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللهِ! إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مُسْطَحٍ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا”. عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ صُدِّرَتِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ بِنَهْيِ أُولِي الفَضْلِ وَالسَّعَةِ أَنْ يَقْطَعُوا نَفَقَاتِهِمْ عَنْ ذَوِي القَرَابَةِ وَالمَسَاكِينِ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالسِّرُّ فِي تَقْدِيمِ صِفَةِ الفَضْلِ عَلَى صِفَةِ السَّعَةِ، أَنَّ الفَضْلَ صِفَةٌ تُوجِبُ الكَرَمَ وَالصَّفْحَ وَسَائِرَ المَعَانِي الحَسَنَةِ وَالخِلَالِ الحَمِيدَةِ، أَمَّا السَّعَةُ وَالغِنَى فَإِنَّهُمَا لَا يُوجِبَانِ صِفَاتٍ حَسَنَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُمَا فَاضِلًا، فَكَانَ الفَضْلُ مُقَدَّمًا عَلَى الغِنَى فِي هَذَا الخِطَابِ الرَّبَّانِيِّ. ثُمَّ أَمَرَتِ الآيَةُ المُؤْمِنِينَ بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ، لِنَيْلِ مَغْفِرَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ. أَيُّهَا المُتَدَبِّرُونَ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى: إِنَّ الأَمْرَ بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ يَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ فِي المَعْنَى وَإِنِ اقْتَرَبَا. فَأَمَّا العَفْوُ: فَمُشْتَقٌّ مِنَ المَحْوِ، إِذْ يُقَالُ: عَفَا الأَثَرُ، إِذَا مُحِيَ، وَأَمَّا فِي اِصْطِلَاحِ الشَّرْعِ فَهُوَ ” إِسْقَاطُ العُقُوبَةِ، وَتَرْكُ المُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، مَعَ القُدْرَةِ عَلَى إِنْفَاذِهَا، وَقَدْ يَبْقَى أَثَرُ الغُصَّةِ فِي النَّفْسِ أَحْيَانًا”. وَأَمَّا الصَّفْحُ: فَفِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الإِعْرَاضُ عَنِ الإِسَاءَةِ، وَفِي اِصْطِلَاحِ الشَّرْعِ:  “مَحْوُ أَثَرِ الذَّنْبِ وَالإِسَاءَةِ مِنَ النَّفْسِ وَالقَلْبِ، وَعَدَمُ التَّذْكِيرِ بِهِ، وَتَرْكُ التَّثْرِيبِ عَلَيْهِ وَلَوْمِهِ” فَيَكُونُ الصَّفْحُ أَبْلَغَ مِنَ العَفْوِ، وَأَرْفَعَ مِنْهُ دَرَجَةً.وَأَمَّا المَغْفِرَةُ: فَمُشْتَقَّةٌ مِنَ الغَفْرِ أَيِ السَّتْرِ، وَمِنْهُ المِغْفَرُ الَّذِي يَلْبَسُهُ المُحَارِبُ لِيَسْتُرَ رَأْسَهُ، وَفِي اِصْطِلَاحِ الشَّرْعِ “سَتْرُ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ إِظْهَارِ الإِسَاءَةِ، مَعَ تَرْكِ العُقُوبَةِ” وَلِذَا كَانَتِ المَغْفِرَةُ مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الكَمَالِ الَّتِي اخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِهَا نَفْسَهُ. وَمِنْ أَجْمَلِ مَا قِيلَ فِي مَعَانِي هَذِهِ الأَلْفَاظِ إِذَا اجْتَمَعَتْ ” العَفْوُ يَرْفَعُ العُقُوبَةَ، وَالصَّفْحُ يَرْفَعُ اللَّوْمَ عَلَيْهَا، وَالمَغْفِرَةُ تَسْتُرُ الذَّنْبَ وَتَمْحُو أَثَرَهُ بِالكُلِّيَّةِ، وَهِيَ أَرْفَعُ المَرَاتِبِ”.

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر