أنوار من جامع الجزائر.. آليات الرقي باللغة العربية – الجزء الثالث والأخير-

أنوار من جامع الجزائر.. آليات الرقي باللغة العربية – الجزء الثالث والأخير-

الحمدُ للّهِ وكَفَى، والصَّلَاةُ والسَّلَامُ على النّبيِّ المصطَفَى، ومن بآثارِهِ اقْتَفَى، وبعَهْدِ اللّه وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الذينَ اصطفى، وبعد:فإنَّ من أبرَزِ ما ينبغِي أن نُعْنَى به في عصرِنَا هذا للرُّقِيِّ بلغتِنَا الجميلَةِ إلى العليَاءِ، ونَرُدَّ بعِلْمٍ ومنطِقٍ علَى كُلِّ الهَجَمَاتِ الآثمَةِ التي وَجَّهَهَا أعدَاءُ العَربيَّةِ لها، ما يأتي:

أوّلًا: عُقْدَةُ النّقصِ اتجاه اللّغات الأخرى: وَهْمٌ غَرَسَتْهُ أَيَادِي الاستعمَارِــ خصوصًا المستعمِرَ الفرنسِيَّ ــ في نفوسِ المسلمين، محَاربَةً لثَوَابِتِهِمْ وهويَّتِهِمْ، وقد نَجَحُوا إلى حَدٍّ كبيرٍ في طَمْسِ الهُوِيَّةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، والمسلِمُ مأمورٌ شرعًا بأن يعتَزَّ بلغَةِ القرآنِ، وأن ينفتِحَ على كلِّ اللّغَاتِ من بَابِ التَّلَاقُحِ المعرِفِيِّ، ولأجلِ وَظِيفِيَّةِ اللّغَةِ أيضًا، فهي تحقِّقُ مصالِحَ التَّبَادُلِ الاقتصادِيِّ والثّقافِيِّ، وبها يحصُلُ التعارُفُ المأمُورُ به في قولِهِ تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.

ثانيا: دعوى العُسْرِ المقترنِ بقواعِدِ اللّغةِ العربيّةِ:فالجوابُ عنه بأنَّ المشكلَةَ في طريقَةِ تلقينِهَا، لا في ذَاتِهَا، لذَا فإنّ الأمَّةَ مطالبَةٌ ببذْلِ الوَسْعِ لتيسير تعليميَّةِ اللّغَةِ ــ خصوصًا عِلْمَي النَّحْوِ والصَّرْفِ ــ، باستغلَالِ كلِّ الوسائِلِ التّقنيَّةِ المتاحَةِ، وانتهَاجِ كلِّ الآليَاتِ اللّغويَّةِ التي وَضَعَهَا العَرَبُ.

ثالثًا: تخلُّفُ مجتمعاتنا الناطقة بها:والجوابُ عن هذه الدّعوَى أنّه لا عَلَاقَةَ بين اللّغَةَ والتّقدُّمِ التِّقَنِيِّ، ولم تكنِ اللّغَةُ يومًا ما عائِقًا عن الرِّفْعَةِ والسُّؤْدَدِ، وقد أثبتَ مَاضِينَا بأنّ الحَضَارَةَ الإسلاميَّةَ العربيَّةَ بلَغَتْ أوَجَّهَا وهي متمسِّكَةٌ باللِّسَانِ العربِيِّ، وذي جامِعَاتُ بغدَادَ وقرطبَةَ شاهِدَةٌ على ذلك، وقد بَرهَنَ الحَاضرُ بأنَّ الدّوَلَ الغربيَّةَ المتطوِّرَةَ، بَلَغَتْ ما بَلَغَتْ، وهي متشبِّثَةٌ بلغَةِ قومِهَا، وهذه الحقيقَةُ توجِبُ علينا نحنُ المسلمينَ أن نأخذَ بِزِمَامِ العِلْمِ بِقوَّةٍ وحَزْمٍ، ونحن مفتخرونَ بهُوِيَّتِنَا، لبلوغِ عليَاءِ المَجْدِ، وصَرْحِ الحضَارَةِ.

رابعًا: المشكلةُ المعجميَّةُ:ودعْوى ضعْفِ مصطلحَاتِ اللّغَةِ مقارنَةً باللّغَةِ الإنجليزيَّةِ، خصوصًا في المنصَّاتِ العالميَّةِ، فهو في الحقيقَةِ تقصيرٌ من أهلِهَا بالدّرجَةِ الأولى، ومع هذا العَجْزِ فإنّ بصيصًا من الأمَلِ قد لاَحَ في الأفُقِ من خلَالِ التَّجَارُبِ الفريدَةِ التي قامت بها المؤسَّسَاتُ العلميَّةُ في مختلِفِ الدّوَلِ العربيَّةِ، خدمَةً للّغَةِ العربيَّةِ وترقيَةً لها.

– سدنةَ اللّغةِ العربيّةِ وحماتَهَا: إنّ اللّغَةَ العربيَّةَ هي وسيلَةُ فَهْمِ مُرَادِ اللّهِ تعالى المضَمَّنِ في وَحْيِهِ، فمَنْ جهِلَ اللّسَانَ عَمِيَ عن فَهْمِ مَعَاني القرآنِ، فأقْبِلُوا على فقهِ اللّسَانِ العَرَبِيِّ، وخُذُوا الأمْرَ بجِدِّيَّةٍ وعَزْمٍ، فمكانَةُ العربيَّةِ من مكانَةِ كَلَامِ اللّهِ، ومَنْ رَفَعَ من شَأْنِ اللّغَةِ فقَدْ عَظَّمَ أَمرَ القرآن، وقد أخبرَنَا اللّهُ تعالى بأنَّ هذا الكتَابَ الخَالدَ من أسبَابِ الرِّفعَةِ والشَّأْنِ، حيثُ قالَ تعالى “وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ” الزخرف: 44، وقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ كما عند أحمَدَ: “إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ”.

 

الجزء الثالث والأخير من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر