رَمَضَانُ شَهْرٌ عَظِيمٌ مَلِيءٌ بِالْخَيْرَاتِ، جَعَلَهُ اللَّهُ فُرْصَةً لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فِيهِ تُغْفَرُ الذُّنُوبُ وَتُسْتَرُ العُيُوبُ، وَتُمْحَى السَّيِّئَاتُ وَتَكْثُرُ الحَسَنَاتُ، وَتُقَالُ العَثَرَاتُ وَتُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ، فَهُوَ شَهْرُ الرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَفِيهِ لَيْلَةُ القَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، كَمَا أَنَّ صِيَامَ نَهَارِهِ وَقِيَامَ لَيْلِهِ سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” وَقَالَ: “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” وَقَالَ عَنْ لَيْلَةِ القَدْرِ: “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”. وَالمَغْفِرَةُ الَّتِي نَرْجُوهَا مِنَ اللَّهِ ــ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ــ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ يَقُولُهَا لَنَا، بَلْ تَعْنِي أَنَّهُ سَيَسْتُرُ ذُنُوبَنَا وَلَا يُؤَاخِذُنَا عَلَيْهَا، وَالمَغْفِرَةُ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ يُمْنَحُهَا لِمَنْ أَخْطَأَ ثُمَّ تَابَ وَرَجَعَ إِلَيْهِ بِصِدْقٍ، فَيَغْفِرُ لَهُ وَيَمْحُو ذُنُوبَهُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْهَا، فَالمَغْفِرَةُ تَقِي الإِنْسَانَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَتُزِيلُ أَثَرَ الذُّنُوبِ، وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذُنُوبَهُمْ كَبِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُغْفَرَ، لَكِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: “إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” الزمر: 53. فَهَنِيئًا لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ وَقَدْ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ، وَسُتِرَتْ عُيُوبُهُ، وَمُحِيَتْ سَيِّئَاتُهُ، وَكُفِّرَتْ خَطَايَاهُ. أَيُّهَا الأَحِبَّةُ: لَقَدْ قَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرَ رَمَضَانَ إلى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ”. وَهَا نَحْنُ الآنَ فِي أَيَّامِ المَغْفِرَةِ، فَمَنْ فَاتَتْهُ الفُرْصَةُ فِي الأَيَّامِ المَاضِيَةِ، فَلَا يَزَالُ أَمَامَهُ وَقْتٌ لِيُعَوِّضَ مَا فَاتَهُ، وَمَنْ كَانَ مُتَهَاوِنًا، فَلْيُبَادِرْ بِالِاجْتِهَادِ، فَهَذِهِ أَيَّامُ المَغْفِرَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ: “هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟”. فَيَا مَنْ أَثْقَلَتْهُ الذُّنُوبُ، لَا تُفَوِّتْ هَذِهِ الفُرْصَةَ، وَ يَا مَنْ أَسْرَفَ على نَفْسِهِ، بَادِرْ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ البَابُ، وَ يَا مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ رَكْبِ العَائِدِينَ، لَا يَزَالُ الطَّرِيقُ مَفْتُوحًا وَأَبْوَابُ المَغْفِرَةِ مُشْرَعَةٌ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ المَغْفِرَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَالدُّعَاءُ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ المَعْصُومُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَكَيْفَ بِنَا نَحْنُ الْمُذْنِبِينَ؟ وَقَدْ عَلَّمَنَا دُعَاءً عَظِيمًا نَقُولُهُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ: “اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي”. هَا هِيَ أَيَّامُ المَغْفِرَةِ تَمْضِي سَرِيعًا، فَاغْتَنِمُوهَا قَبْلَ أَنْ تُطْوَى الصَّحَائِفُ، وَلْيَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا خَلْوَةٌ مَعَ نَفْسِهِ، يَتَفَكَّرُ فِي ذُنُوبِهِ، وَيَسْأَلُ نَفْسَهُ: هَلْ أَنَا مِمَّنْ سَتُغْفَرُ ذُنُوبُهُ؟ أَمْ سَأَخْرُجُ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا دَخَلْتُهُ؟ لَا تَجْعَلُوا رَمَضَانَ يَمْضِي دُونَ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْهُ بِصَكِّ المَغْفِرَةِ، فَإِنَّ العَاقِلَ مَنْ اسْتَثْمَرَ الفُرْصَةَ قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ التَّائِبِينَ المَقْبُولِينَ، وَأَنْ يُعْتِقَ رِقَابَنَا وَرِقَابَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا مَغْفِرَةً تَامَّةً، لَا تُبْقِي ذَنْبًا وَلَا تُخَلِّفُ أَثَرًا، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر