أنوار من جامع الجزائر.. الإعاقةَ البدنيةَ لم تكنْ سببًا للإعاقة في الحياة – الجزء الثاني –

أنوار من جامع الجزائر.. الإعاقةَ البدنيةَ لم تكنْ سببًا للإعاقة في الحياة – الجزء الثاني –

إنَّ الإعاقةَ البدنيةَ لم تكنْ ــ وليست أبدًا ــ سببًا للإعاقة في الحياة، أو مانعا من الإبداع والابتكار،فكمْ من معاقٍ وذي عاهةٍ حفظَ القرآنَ الكريم، وكم  من معاقٍ أتقن مهارات وأنجز أعمالًا عجز عنها الأقوياء الأسوياءُ! وكم من معاقٍ حقّقَ نجاحاتٍ باهرةً، وقدّمَ للبشرية إنجازاتٍ لم يستطعْها الأصحاء، فقد استخْلفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم ابنَ أمِّ مكتومٍ رضي الله عنه مرتين على المدينة وكان ضريرًا، وجعله النبي عليه الصلاة والسلام مؤذنًا مع بلال رضي الله عنه، ونزل في حقّه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة: “عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى”عبس: 1ــ 4، وهذا سيدنا عمرو بنُ الجَموح رضي الله عنه، وكان أعرجَ من ذوي الأعذارِ، غيرَ أنّه تحدَّى إعاقتَه وعزم أن يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأعمال العظيمة في الإسلام، فجاهد حتى استشهد، ففي صحيح ابن حبان عن جابرٍ بن عبدِ الله رضي الله عنهما قال: “جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ قُتِلَ الْيَوْمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: “نَعَمْ”، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا عَمْرُو، لَا تَألَّ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ: مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، يَخُوضُ فِي الْجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ”. وفي التابعين عطاء ابن أبي رباحٍ، كان أشلَّ أعرجَ، وهو إمامُ أهل مكة في زمانه، ومحمد بن سيرين الفقيهُ المحدّثُ، كان به صمم، ومن بعدهم كثير، كالإمام الترمذي، الإمام المحدث الكبير صاحب السنن، كان ضريرًا، وكأبي العلاءِ المعريِّ، الشاعرُ الفحلُ الفيلسوفُ الأديبُ، صاحبُ المصنفات كان ضريرًا، فالإعاقة الحقيقيَّة لمن فقد التفكير السليم وحرم نور البصيرة، كما قال تعالى: “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” الحج: 46، وقال أيضًا: “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ” الأنفال: 22. إن من رحمة الشّريعة وسماحتها أنَّها رفعت الحرجَ والمشقَّةَ عن ذوي الاحتياجاتِ الخاصّةِ، ورفقت بهم، ففي فقهنا الإسلاميِّ ثرْوةٌ هائلةٌ من المسائل في التخفيف ورفع الحرج عن هذه الفئة الضعيفة في المجتمع، مستنبطةٌ من قواعدَ فقهيةٍ عظيمةٍ وهي: “المشقة تجلُبُ التيسِير”، وبالمقابل حرّمت الشريعة السُّخريَّةَ والتنمُّرَ وازدراءَ الناسِ عمومًا، ومن باب أولى ذوي الإعاقات، فقال سبحانه وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” الحجرات: 11.

 

الجزء الثاني من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر