أنوار من جامع الجزائر: دروس من مظاهرَاتِ 11 ديسمبرَ 1960 – الجزء الثاني والأخير –

أنوار من جامع الجزائر: دروس من مظاهرَاتِ 11 ديسمبرَ 1960 – الجزء الثاني والأخير –

إنَّ مظاهرَاتِ 11 ديسمبرَ 1960 في الجزائِرِ ليسَتْ مُجَرَّدَ حَدَثٍ تَارِيخِيٍّ عَابِرٍ، بل هي مدرسَةٌ مَلِيئَةٌ بالدُّرُوسِ والعِبَرِ، التي يجبُ أنْ تُسْتَلْهَمَ في كُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ. ومن أَهَمِّ الدُّرُوسِ والعِبَرِ التي نستخلِصُهَا: أنَّ هذه المُظَاهَرَاتِ تُذَكِّرُنَا بأنَّ وَحدَةَ الأُمَّةِ، والإيمَانَ بالحَقِّ، والتّضحيَةَ، والعَمَلَ الجَمَاعيَّ هي أُسسُ النَّصْرِ،فعلى الشُّعُوبِ إِذًا أن تستلهِمَ هذه القِيَمَ في مواجهَةِ كُلِّ التَّحَدِّيَاتِ، لتَكتُبَ تَارِيخًا مُشَرِّفًا لَهَا ولأجيالِهَا القَادِمَةِ. ومن الدُّرُوسِ التي أظهرتْهَا هذه المظاهَرَاتُ، أنَّ الحُرِّيَّةَ لا تُوهَبُ، بل تُنتَزَعُ، ولذلك قدَّم الجزائريُّونَ الغَاليَ والنَّفِيسَ في سبيلِ استقلَالِ وَطَنِهِمْ، عاقدين تلك الصّفقَةَ الرّابحَةَ مع رَبِّ العالمين القَائِلِ سبحانَهُ: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُومِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ” التوبة: 111، وكذلك أثبتَتْ هذه المظاهَرَاتُ أنَّ قُوَّةَ الشَّعْبِ تَكْمُنُ في وحدتِهِ وتَلَاحُمِهِ وتَكَاتُــفِهِ، مِصْدَاقًا لقولِهِ تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا” آل عمران: 103، وقولِهِ تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ” الصف: 4. وَلَعَلَّ من أَبْرَزِ دُروسِ هذه المظَاهرَاتِ أيضًا، أنَّ النَّصْرَ يتحقَّقُ بالصَّبْرِ والثَّبَاتِ، كما قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن عباس رضي اللّهُ عنهما في الحديثِ الذي رواه الإمامُ أحمدُ “وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”. كما أثبتَ الجزائريُّونَ في تلك المظاهَرَاتِ كذلكَ أنَّ إرادَةَ الشُّعوبِ لا تُكْسَرُ، وأنَّ الأَمَلَ لا يُطْفَأُ، مهما حَاوَلَ الظّالمونَ وسَعَوا إلى ذلكَ، كما قالَ تعالى:”يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ” التوبة: 32. إنّ الشّهداءَ قد رَوَّوْا بدمائِهِمْ أرضَ الجزائِرِ، وَخَضَّبُوا بها السّهولَ والهضَابَ وأَعَاليَ الجِبَالِ، ولا يزالُ ترابُ الجزائِرِ مُبَلَّلًا بالدّمَاءِ لم تجِفَّ بَعْدُ، كما لا تَزَالُ آثَارُ الاستعمَارِ شاهِدَةً على وحشيَّتِهِ وطغيانِهِ وظلمِهِ. وإنّ الرّجالَ الذين ضحُّوا بأنفسِهِمِ في سبيلِ اللّهِ لنعيشَ، وبذلُوا أرواحَهُمْ لنحيَا حَيَاةً طيّبَةً سعيدَةً، قد تركوا لنا الجزائِرَ أمانَةً في أعناقِنَا، لا تبرَأُ ذِمَّتُنَا إلّا بالمحافَظَةِ عليها والدّفاعِ عنها، فإن أَحْسَنَّا القيامَ بالواجبِ كنا سعداء فيها، وإن أسأنَا فقد خُنَّا الأَمَانَةَ وأخلفْنَا الوَعْدَ ــ والعياذُ باللّهِ ــ، ولحقتنا دَعَوَاتٌ مستجَابَاتٌ، دعوَةُ الشّهدَاءِ الأبرَارِ، ودعوَةُ الأَرَامِلِ والأيتَامِ، ودعوَةُ المظلومين الذين ذاقوا مرارَةَ التّعذيبِ والإعدامِ في سجونِ المستعْمِرِ البَغِيضِ. لنجعلْ من الذّكرى فرصَةً لشُكْرِ اللّهِ على نعمَةِ الحرّيَّةِ والاسْتِقلَالِ، ومحطَّةً نتزوّدُ منها بالوطنيَّةِ الصّادقَةِ، وخدمَةِ الوطنِ بإخلَاصٍ ووفَاءٍ،وحِمَايَتِهِ والدِّفَاعِ عنه. نسألُ اللّهَ عزَّ وجلَّ أن يَفتحَ علَى إخوانِنا في غزَّةَ الجريحةِ بما فتحَ بهِ علينا من النَّصرِ والتَّمكينِ، وأن يجمعَ كلمتَهُم، وأن يُوحِّدَ صُفوفَهُم، وأن يجعَلَهُم على قلبِ رجلٍ واحدٍ في مواجهةِ الصَّهاينةِ المُعتدينِ. نسألُ اللهَ أن يُوفِّقَنا لما فيهِ خيرُ البلَادِ والعبَادِ، وأن يُجنِّبَنَا الفِتَنَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ.

 

الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر