يَقُولُ اللَّهُ تعالى في وَصْفِ الإنسَانِ: “كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى” العلق: 6 ــ 7، والطُّغْيَانُ تجاوُزُ الحَدِّ في العِصْيَانِ والفَسَادِ، وهذا الطُّغْيَانُ قَدْ يَدْفَعُ أَصْحَابَهُ إِلَى الطَّمَعِ فِي الضُّعَفَاءِ، وَإِلَى الظُّلْمِ وَالبَغْيِ عَلَيْهِمْ وَسَلْبِ حُقُوقِهِمْ، وَلِهَذَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ لِتَقْوِيمِ أَخْلَاقِ النَّاسِ، وَتَهْذِيبِ نُفُوسِهِمْ، وَنَشْرِ العَدْلِ بَيْنَهُمْ، كما أخبر بذلك في كتابِهِ العزيزِ بقولِهِ: “لَقَدَ ارْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” الحديد: 25، فَالعَدْلُ هُوَ أَسَاسُ العُمْرَانِ، وَالظُّلْمُ هُوَ خَرَابُ الأَرْضِ وَهَلَاكُ أَهْلِهَا. إِنَّ اللّهَ قد أخبرَنَا عن أقوَامٍ تَجَبَّرُوا وطَغَوْا وظَلَمُوا، وأفسدُوا في الأرضِ بعد إصلاحِهَا، فكان عاقِبَتُهُمْ الهَلَاكَ وَالدَّمَارَ، فقال تعالى حكايَةً عن عادٍ وثمودَ وفرعونَ: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ” الفجر: 6 ــ 14. إنَّ القرآنَ الكريمَ يعلِّمُنَا أنَّ الـمَظْلُومِينَ إذا اسْتَكَانَوا وَرَضُوا بِالذُّلِّ وَالمَهَانَةِ، فَإِنَّ أَعْدَاءَهُمْ يَزْدَادُونَ عَلَيْهِمْ طُغْيَانًا وتَجَبُّرًا، لِذَلك أمرَنَا بعَدَمِ الخُضُوعِ لِلظَّالِمِينَ مَهْمَا كَانَتْ قُوَّتُهُمْ أَوْ كَثْرَتُهُمْ، فقال: “وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ” هود: 113. وأمرَنَا بِالثَّبَاتِ أَمَامَ الشَّدَائِدِ، والصَّبْرِ عَلَى المِحَنِ، فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” آل عمران: 200، وَهَذَا مَا رَأَيْنَاهُ جَلِيًّا فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ وَاجَهَ مَعَ أَصْحَابِهِ أَصْعَبَ الظُّرُوفِ وَأَشَدَّ الأَزَمَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَلُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَلَمْ يَهِنُوا فِي مُوَاجَهَةِ أَعْدَائِهِمْ. وَمِنْ أَبْرَزِ تِلْكَ الـمَحَطَّاتِ المَلِيئَةِ بِالعِبَرِ وَالدُّرُوسِ غَزْوَةُ بَنِي الـمُصْطَلِقِ، وبنو الـمُصْطَلِقِ فَرْعٌ من قبيلَةِ خُزَاعَةَ، تَحَالَفُوا مع قُرَيْشٍ لِمُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم النَّبِيُّ بجيشِ المسلمين وأَغَارَ عليهم على حِينِ غفلَةٍ منهم، وسنَتَوَقَّفُ مَعَ هذه الغزوَةِ لِنَتَأَمَّلَ أَحْدَاثَهَا، وَنَسْتَلْهِمَ مِنْ مَوَاقِفِهَا القُوَّةَ وَالثَّبَاتَ، وَنَعْرِفَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُ الأُمَّةَ بِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ فِي مُوَاجَهَةِ الأَعْدَاءِ وَالمُتَرَبِّصِينَ. إِنَّ غَزْوَةَ بَنِي الـمُصْطَلِقِ، الَّتِي وَقَعَتْ أحدَاثُهَا فِي مثلِ هذا الشّهْرِ، أي في شَهْرِ شَعْبَانَ من السَّنَةِ الخَامِسَةِ لِلهِجْرَةِ، ولم تكن مُجَرَّدَ مَعْرَكَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَأَعْدَائِهِمْ، بَلْ كَانَتْ مَحَطَّةً مُهِمَّةً أَظْهَرَتِ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي وَاجَهَتِ الدَّعْوَةَ الإِسْلَامِيَّةَ مِنَ الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَكَشَفَتْ عَنْ حِكْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِدَارَةِ الأَزَمَاتِ وَوَأْدِ الفِتَنِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَفْحِلَ. بَدَأَتْ أحدَاثُ هَذِهِ الغَزْوَةِ عِنْدَمَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ، زَعِيمَ بَنِي الـمُصْطَلِقِ، قَدْ جَمَعَ جَيْشًا اسْتِعْدَادًا لِلهُجُومِ عَلَى المَدِينَةِ المنَوَّرَةِ، مِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الـمَخَاطِرَ لَمْ تَكُنْ تَقْتَصِرُ عَلَى قُرَيْشٍ، بَلِ امْتَدَّتْ لِتَشْمَلَ قَبَائِلَ مُتَحَالِفَةً معها، تَسْعَى لِإِضْعَافِ المُسْلِمِينَ، وَفِي هَذَا دَرْسٌ عَظِيمٌ لَنَا فِي أَهَمِّيَّةِ الـمُبَادَرَةِ لِرَدْعِ العُدْوَانِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ خَطَرُهُ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْتَظِرْ حَتَّى يَأْتِيَهُ العَدُوُّ، بَلْ خَرَجَ بِجَيْشٍ قِوَامُهُ سَبْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَثَلَاثُونَ فَرَسًا، وَاتَّجَهَ لِمُلَاقَاةِ بَنِي الـمُصْطَلِقِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ “الْمُرَيْسِيعُ”، وهو اسْمُ بِئْرٍ من آبَارِهِمْ.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر