لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنَنٍ عَظِيمَةٍ وَمُعْجِزَاتٍ بَاهِرَةٍ، فَخَصَّهُ بِإِنْزَالِ أَعْظَمِ كُتُبِهِ، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ، وَجعلَ شَرِيعَتَهُ أَتَمَّ الشَّرَائِعِ وَأَشْمَلَهَا، وَأُمَّتَهُ خَيْرَ الْأُمَمِ وأفضلها، وَأَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. كَمَا أَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي مِنْ أَعْظَمِهَا تِلْكَ الآيَةُ الكُبْرَى الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهَا بَيْنَ أَهْلِ الحَقِّ وَالإِيمَانِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَهِيَ رِحْلَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، كَمَا صرح بهَا القرآنُ في قولِهِ تَعَالَى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الَاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنَ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” الإسراء: 1، وقولِهِ تَعَالَى: “أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى” النجم: 12 ــ 18. لَقَدْ جَاءَتْ رِحْلَةُ الإِسْرَاءِ فِي تَوْقِيتٍ حَسَّاسٍ وَصَعْبٍ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ تَزَامَنَتْ مَعَ مَا عُرِفَ بِـ “عَامِ الحُزْنِ”، الَّذِي لَمْ يَلْتَحِقْ فِيهِ أفرادٌ جددٌ بِالْإِسْلَامِ ، فحزِن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لذلك، وَهُوَ كَذَلِكَ الْعَامُ الَّذِي فَقَدَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَدَهُ الدَّاخِلِيَّ، وَهِيَ زَوْجَهُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، الَّتِي كَانَتْ نِعْمَ الزَّوْجَةُ وَالسَّنَدُ وَالمُعِينُ فِي دَعْوَتِهِ، وَفَقَدَ سَنَدَهُ الخَارِجِيَّ، وَهُوَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، الَّذِي كَانَ يَحْمِيهِ وَيُدَافِعُ عَنْهُ أَمَامَ كَيْدِ قُريشٍ. لَقَدْ زَادَتْ هَذِهِ المَصَائِبُ مِنْ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَبَلَغَ الْأَذَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّهُ، خَاصَّةً بَعْدَمَا لَقِيَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ الرَّفْضَ وَالإِهَانَةَ، حَيْثُ أَغْرَوْا بِهِ السُّفَهَاءَ لِيَرْمُوهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا قَدَمَيْهِ؛ وَفِي خِضَمِّ هَذَا الأَلَمِ وَالِابْتِلَاءِ، شَاءَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، وَأَنْ يُجَدِّدَ يَقِينَهُ بِوَعْدِهِ الحَقِّ، فَأَكْرَمَهُ بِرِحْلَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ المُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ أَهْلُ الأَرْضِ طَرَدُوكَ، فَرَبُّ السَّمَاءِ يَدْعُوكَ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ: جَاءَتْ رِحْلَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ آيَاتٍ، لِتَكُونَ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتًا لِقَلْبِهِ. قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: “إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُثَبِّتُ قُلُوبَ أَنْبِيَائِهِ بِمَا يُرِيهِمْ مِنَ الآيَاتِ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا جَرَى لِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، لِيَقْوَى يَقِينُهُمْ وَيَشْتَدَّ عَزْمُهُمْ”، وَهَذَا مَا حَدَثَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ مِنْ عَظِيمِ مَلَكُوتِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ. بَدَأَتْ هَذِهِ الرِّحْلَةُ العَظِيمَةُ حِينَ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا، وَهُوَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَأَخَذَهُ عَلَى البُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ سَرِيعَةٌ، لِيَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، هُنَاكَ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى، جَمَعَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَنْبِيَاءَ وَالمُرْسَلِينَ جَمِيعًا، فَأَمَّهُمْ فِي الصَّلَاةِ، إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَأْكِيدًا عَلَى مَكَانَتِهِ كَإِمَامٍ لَهُمْ وَخَاتٓمِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِشَارَةً إِلَى وَحْدَةِ الرِّسَالَاتِ وَرَبْطًا بَيْنَ مَكَّةَ وَالقُدْسِ كَرَمْزَيْنِ لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر