أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى مظاهرَاتِ 11 ديسمبرَ 1960 – الجزء الأول –

أنوار من جامع الجزائر.. في ذكرى مظاهرَاتِ 11 ديسمبرَ 1960 – الجزء الأول –

إنَّ الوحدَةَ من أعظَمِ القيَمِ التي حَثَّ عليها دينُنَا الحنيفُ، وهي أَسَاسُ كلِّ نَهضَةٍ وتَقَدُّمٍ، وأَدَاةٌ لا غِنَى عنها في تحقيقِ أَيِّ نَصرٍ. قالَ تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ” الصف: 4. إن الألفَةَ بينَ القلوبِ، واتِّحَادَ الصفوفِ، ووحدَةَ الكلمَةِ، عَوَاملُ لا بدَّ منها لتحقيقِ النّصْرِ، ولذلك امتنَّ اللّهُ على نبيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنْ أَوجَدَ له أصحَابًا مُتَّحدِينَ مُتَحابِّينَ، أيَّدَهُ بهِمْ وبنصْرِهِ، قالَ تعالى: “هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُومِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الأنفال:62 ــ 63. ولقدْ حذَّرَ القرآنُ الكريمُ منَ التّفرُّقِ والتّنازُعِ الذي يكونُ سببًا في الهزيمَةِ والانكسَارِ،فقالَ تعالى: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” الأنفال: 46. وقدْ تعلَّمَ الصّحابَةُ هذا الدّرسَ في غزوَةِ أُحُدٍ، لمّا عَصَى بعضُهُمْ أَمرَ نبيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وتَعَلَّقَ بعضُهُمْ بمتَاعِ الدّنيا واشتغلوا بالغنائِمِ،فَقَالَ تعالى: “حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُومِنِينَ” آل عمران: 152.

إنَّ قوَّةَ الأُمَّةِ لا تأتي من كثرتِهَا، بل من وحدتِهَا وتَكَاتُفِ أفرادِهَا، فإذا كانَ النَّاسُ مُتَّحدِينَ في هَدَفِهِمْ، فإنَّهُمْ قادرونَ ــ بِحوْلِ اللّهِ ــ على تحقيقِ النَّصْرِ والتَّمْكِينِ. ولنا مَثَلٌ عظيمٌ في مظاهرَاتِ 11 ديسمبرَ سنةَ ألفٍ وتسعمائَةٍ وستِّينَ، التي خَرَجَ فيها الشَّعْبُ الجزائريُّ بكلِّ شَرائِحِهِ مُتَّحدًا مُلْتَحِمًا وراءَ أهدَافِهِ المُشتَرَكَةِ، لا يُفرِّقُهُمْ اختلَافٌ في التَّوَجُّهَاتِ، ولا تَبَايُنٌ في الرُّؤَى، مُطَالِبًا بحقوقِهِ، ومُنَادِيًا بوحدَتِهِ وأَمَلِهِ في التَّغْيِيرِ، هذا اليومُ الذي كانَ عَلَامَةً فَارِقَةً في تارِيخِ أُمَّتِنَا، حيثُ خَرَجَ الشَّعْبُ الجزائِرِيُّ في مُظَاهرَاتٍ سِلْمِيَّةٍ، يُنَادِي بالحُرِّيَّةِ والاستقلَالِ، مُتَحَدِّيًا بَطْشَ المستَدْمِرِ، الذي لَجَأَ إلى قَمْعِهَا بِشَتَّى الوَسَائلِ: مُدَاهَمَاتٍ، واخْتِطَافَاتٍ، واعْتِقَالَاتٍ. خرجَ الشَّعْبُ رَافعًا صَوْتَهُ بالحَقِّ رَغْمَ القَمْعِ والاضْطِهَادِ.وصَدَقَ اللّهُ العظيمُ إذ يقول: “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الَاعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُومِنِينَ” آل عمران: 139. ولقد عَبَّرَ الشَّيخُ البشيرُ الإبراهيمِيُّ عن موقفِهِ من مظاهرَاتِ 11 ديسمبرَ 1960 بأسلوبِهِ العَمِيقِ الذي يجمَعُ بينَ الفِكرِ الوَطَنِيِّ والإسلَامِيِّ، فقالَ: “لقد أثبَتَ الشَّعْبُ الجزائِرِيُّ للعَالَمِ أنَّهُ مُوَحَّدٌ في مَطَالبِهِ، عظيمٌ في صَبْرِهِ، ومُستعِدٌّ للتَّضحِيَةِ في سبيلِ استعادَةِ استقلَالِهِ، إنَّ هذه المظاهَرَاتِ جَاءَتْ لتقطَعَ الطّريقَ على الدِّعَايَةِ الاستعمارِيَّةِ، التي حاولتْ طَمسَ الهُوِيَّةِ الجزائِرِيَّةِ وتشتيتَ صفوفِ الأُمَّةِ”.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر