أنوار من جامع الجزائر.. مقومات التنمية المستدامة – الجزء الثالث والأخير –

أنوار من جامع الجزائر.. مقومات التنمية المستدامة – الجزء الثالث والأخير –

الحمدُ للّهِ وكَفَى، والصّلاةُ والسّلامُ على النَّبيِّ المصطفى، ومَنْ بآثارِهِ اقتَفَى، وبعهدِ اللّهِ وَفَّى، وسَلَامٌ على عبادِهِ الذين اصْطَفَى، وبعد: فكُنَّا قد وَقَفْنَا في الخطبَةِ الأولى على ثلاثَةِ مَعَالِمَ للتَّنْمِيَةِ المستدامَةِ في المنظُورِ الإسلامِيِّ، وهي: الأمرُ بعمارَةِ الدُّنيا بالخير؛ اهتدَاءً بنورِ العلمِ النّافِعِ أوّلًا، ثمّ إنَّ المَالَ مَالُ اللّهِ، ونحن مستخلفون فيه ثَانِيًا، ثمّ إنَّ وظيفَةَ المَالِ في الإسلَامِ تحقيقُ مقاصِدِهِ المشروعَةِ ثالثًا، ومع المَعْلَمَيْنِ الأخيرَيْنِ الرَّابِعِ والخَامِسِ:

– رابعًا: الدّنيا مزرعَةُ للآخرَةِ : إنّ فلسفَةَ الإسلَامِ في عِمَارَةِ الدّنيا أن يَتَّخِذَهَا المَرْءُ وسيلَةً لعِمَارَةِ الآخرَةِ والفوزِ بنعيمِهَا السَّرْمَدِيِّ، فمَنِ اعتبَرَ الدُّنيَا قنطرَةً للآخِرَةِ؛ ومزرَعَةً لها، لم يُعَرْبِدْ فيهَا، ولم يُفْسِدْ فوقَ ظَهْرِهَا، ولم يتعَدَّ حدودَ اللّهِ التي بَيَّنَ الدِّينُ معالمَهَا، وعَمَّرَهَا بكُلِّ خيرٍ: من عدلٍ؛ ورحمَةٍ؛ ونشرِ فضيلَةٍ؛ وحِفَاظٍ على بيئَةِ؛ وبنَاءٍ حَضَارِيٍّ؛ وإتقَانِ عَمَلٍ؛ ونصرَةِ مظلومٍ؛ وإعانَةِ ملهوفٍ؛ واضِعًا نصْبَ عينيه نصيحَةَ المؤمنينَ لقارونَ “إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” القصص:76 ــ 77. فإذا ما أَيقَنَ الإنسَانُ هذه الحقيقَةَ؛ واعْتَقَدَهَا اعتقَادا جَازمًا، استخْدَمَ هذه الوسيلَةَ بالقَدْرِ الكَافِي الذي يُحَقِّقُ الغَايَةَ المَنْشُودَةَ، وما أجمَلَ كَلَامَ حُجَّةِ الإسلَامِ أبي حامِدٍ الغزالِيِّ قدَّسَ اللّهُ سِرَّهُ، وهو يُشِيرُ إلى مرتبَةِ الاقتصَادِ في معادَلَةِ الدّنيا والآخرَةِ، بالجَمْعِ بين العِمَارَتَيْنِ، فيقول: “أمّا بعدُ، فإنّ رَبَّ الأربَابِ ومُسَبِّبَ الأسبَابِ، جَعَلَ الآخرةَ دَارَ الثَّوَابِ والعِقَابِ، والدُّنيا دارَ التَّحَمُّلِ والاضْطِرَابِ، والتَّشَمُّرِ والِاكْتِسَابِ، وليس التّشمُّرُ في الدّنيا مقصورًا على المَعَادِ دُونَ المَعَاشِ، بلِ المَعَاشُ ذريعَةٌ إلى المَعَادِ، ومُعِينٌ عليه، فالدّنيا مزرعَةُ الآخرَةِ ومَدْرَجَةٌ إليها، والنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: رَجَلٌ شَغَلَهُ مَعَاشُهُ عن مَعَادِهِ، فهو من الهالكين، ورَجَلٌ شَغَلَهُ مَعَادُهُ عن مَعَاشِهِ، فهو من الفائزين، ورَجَلٌ شَغَلَهُ معاشُهُ لمعادِهِ، فهو الأقرَبُ إلى الِاعْتِدَالِ، فهو من المُقْتَصِدِينَ”. إنّ الموازنَةَ بين الدّنيا والآخرَةِ من أَهَمِّ مقاصِدِ التَّشْرِيعِ، فلا الدّنيا تشغَلُ عن عَمَلِ الآخرَةِ، ولا الآخرَةُ تُلْغِي عَمَلَ الدّنيا، قال اللّهُ تعالى وَاصِفًا عبادَهُ المؤمنين الذين يَعْمُرُونَ دُنْيَاهمْ، ولا يُخَرِّبُونَ آخِرَتَهُمْ: “رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وإِقَامِ الصَّلَاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” النور: 37 ــ 38.

– خامسا: وجوبُ التَّحَقُّقِ بالإيمانِ الصّحيحِ: إنَّ الإسلامَ يؤَكِّدُ على رَبْطِ كُلِّ مفاصِلِ الحياةِ “الاجتماعيَّةِ والسّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والثّقافيَّةِ، وهَلُمَّ جَرًّا” بتحقيقِ الإيمانِ الصَّحيحِ، وأنّ أَثَرَ الإيمَانِ في تحقِيقِ كُلِّ تنميَةٍ منشودَةٍ في الحَيَاةِ غَيْرُ خَافٍ على كُلِّ ذي لُبٍّ، وقد نَطَقَ القرآنُ الكريمُ بهذه الحقيقَةِ في غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، من ذلك قولُهُ تعالى “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” الأعراف: 96. أيّها الصّادقون:تَحَقَّقُوا بالإيمَانِ في حياتِكُمْ، ثُمَّ اشْفَعُوا ذَلِكَ بعمَلٍ صَالِحٍ مبرورٍ، تُقَدِّمُونَهُ في دُنْيَاكُمْ، فَتَسْعَدُوا به في العَاجِلَةِ، وتَعْمُرُوا به الآجِلَةَ.

 

الجزء الثالث والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر