كُنَّا قد مَهَّدْنَا بشُمُوليَّةِ تعاليمِ الإسلَامِ الحنيفِ لكلِّ مَفَاصِلِ الحَيَاةِ، فَلْنَقِفْ عبادَ اللّهِ على أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ التَّنميةِ المُسْتَدَامَةِ من منظورِ دينِنَا الإسلَامِيِّ، وكيفَ عُنِيَ الشَّرْعُ القويمُ بتحقيقِهَا في أرضِ الوَاقِعِ، ولكنْ بنظرتِهِ الشّموليَّةِ المَقَاصِدِيَّةِ، التي تُعْنَى بالرُّوحِ والجَسَدِ معًا، وتَتَعَدَّى في مفهومِهَا الاهتمَامَ بالحَيَاةِ الدّنيا إلى تَشَوُّفِ الآخرَةِ، فهي لا تَقْتَصِرُ على الأبعَادِ الثّلَاثةِ التي حَدَّدَهَا الغربُ بحسبِ منظورِهِ المَادِيِّ: الاجتماعِيِّ والاقتصادِيِّ والبيئِيِّ، وإليكُم أَهَمَّ مَعَالِمِهَا على وَجْهِ الإجمَالِ، ولا يُغْنِي هذا عن التَّفاصِيلِ المبثوثَةِ في أمَّهَاتِ المراجِعِ العلميَّةِ:
– أوّلًا: الأمْرُ بعِمَارَةِ الدّنيا بالخيرِ، لقد خَلَقَ اللّهُ تعالى الإنسَانَ، واسْتَخْلَفَهُ الأرضَ، لتحقيقِ العبوديَّةِ المطلقَةِ له سبحانَهُ، ولعِمَارةِ الدّنيا بالخيرِ، وهي من العبادَةِ أيضًا، فقال تعالى في شأنِ الغايَةِ الأولى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” الذاريات:56، وقال سبحانَهُ في شَأْنِ الغايَةِ الثّانيَةِ: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ” هود: 61، ولا شكَّ أنّ عمَارَةَ الأرضِ بالخيرِ على هُدًى وبصيرَةٍ وعِلْمٍ؛ هو عُنوَانُ التّنميَةِ الشَّاملَةِ التي ينشدُهَا كُلُّ إنسَانٍ عَاقِلٍ، فاعْمَلُوا رحمَكُمْ اللّهُ على أن تَنْشُرُوا الخيرَ، وتَسْتَكْثِرُوا من الأعمَالِ الصّالحَةِ، قال تعالى “وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” الحج: 77، وقال تعالى “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا”.
– ثانيًا: المَالُ مَالُ اللّهِ، ونحن مُسْتَخْلَفُونَ فيه: إنَّ نظرَةَ الإسلَامِ للمَالِ أَنَّهُ مُلْكٌ للّهِ وحدَهُ على الحقيقَةِ، وأنَّنَا مُسْتَخْلَفُون فيه، مصدَاقًا لقولِهِ تعالى “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ” الحديد:07، إذا عَلِمَ المؤمِنُ أنّ المَالَ للّهِ حقيقَةً، سَهُلَ عليه أن يَمْتَثِلَ أوامِرَهُ في كُلِّ ما يتعلَّقُ به، فيُوَظِّفَهُ في مرضَاةِ اللّهِ طَوَاعِيَّةً، وينفِقَهُ في وجوهِ البِرِّ والإحسَانِ بطيبِ نفسٍ، كما قال تعالى “وَآتُوهُمْ مِن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ” النور: 33، وبهذا تَتَحَقَّقُ التّنميَةُ المستدامَةُ.
– ثالثًا: وظيفَةُ المالِ في الإسلَامِ تحقيقُ مقاصدِه ِالمشروعَةِ: إنَّ من تشريعَاتِ اللّهِ تعالى في وظيفَةِ المَالِ، ما يَضْمَنُ تحقيقَ مَقَاصِدِهِ الكُليَّةِ والجزئيَّةِ؛ التي منها الوصولُ إلى التّنميَةِ المُسْتَدَامَةِ، فعلى سبيلِ المثَالِ لا الحَصرِ: أمَرَ الإسلَامُ بتداوُلِ المَالِ وتوظِيفِهِ استِثْمَارًا وتجارَةً وتنميَةً، لئلَّا يكونَ حِكْرًا على فِئَةٍ من النَّاسِ، ولتتحقَّقَ الدَّوْرَةُ الاقتصاديَّةُ، فقال تعالى محرِّمًا الاكتنَازَ ” وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” التوبة: 34، وجَاءَ التَّشريعُ الإلهِيُّ بتحريمِ أكلِ أموَالِ النَّاسِ بالباطِلِ، فحرَّمَ الرِّبَا والرِّشَى والمَيْسِرَ والقِمَارَ والسَّرِقَةَ والغَصْبَ، وكُلَّ مظهَرٍ من مظاهر إساءَة توظيفِ المَال؛ أو التَعَدِّي عليه، فقال تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ”.
الجزء الثاني من خطبة الجمعة من جامع الجزائر