أنوار من جامع الجزائر.. من أحداث غَزْوَةُ بَنِي الـمُصْطَلِقِ – الجزء الثاني والاخير –

أنوار من جامع الجزائر.. من أحداث غَزْوَةُ بَنِي الـمُصْطَلِقِ – الجزء الثاني والاخير –

إِنَّ هَذِهِ الغَزْوَةَ لَمْ تَخْلُ مِنَ التَّحَدِّيَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ، فَقَدْ كَانَتْ فُرْصَةً لِلْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ، لِإِثَارَةِ الفِتَنِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، حَيْثُ حَاوَلَ اسْتِغْلَالَ خِلَافٍ بَسِيطٍ بَيْنَ أَحَدِ الـمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ لِإِحْيَاءِ العَصَبِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، وَدَعَا الأَنْصَارَ قَائِلًا: “لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الـمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ” المنافقون: 8، فِي إِشَارَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُنَا يَظْهَرُ دَرْسٌ مُهِمٌّ، وهو أَنَّ الأَزَمَاتِ قَدْ تَأْتِي مِنَ الدَّاخِلِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَ الإِسْلَامِ قَدْ يُحَاوِلُونَ تَفْكِيكَ وَحْدَتِهِ بِإِثَارَةِ النَّعَرَاتِ الجَاهِلِيَّةِ، لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَامَلَ مَعَ هَذَا الـمَوْقِفِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، فَلَمْ يُعَجِّلْ بِاتِّخَاذِ قَرَارٍ ضِدَّ المُنَافِقِينَ، حِفَاظًا عَلَى وَحْدَةِ الصَّفِّ الدَّاخِلِيِّ، وَتَرَكَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ وَأَتْبَاعِهِ سُورَةَ المنافِقُونَ الَّتِي فَضَحَتْهُمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: “هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ” المنافقون:7 ــ 8، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تعالى لَا يَغْفَلُ عَنْ أَفْعَالِ الظَّالِمِينَ، وَسَيَكْشِفُ حَقِيقَتَهُمْ مَهْمَا حَاوَلُوا التَّخَفِّيَ.

لَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي الـمُصْطَلِقِ مَلِيئَةً بِالدُّرُوسِ الَّتِي تَحْتَاجُ الأُمَّةُ أَنْ تَتَأَمَّلَهَا اليَوْمَ، مِنْ أَبْرَزِهَا أَهَمِّيَّةُ الـمبَادَرَةِ فِي مُوَاجَهَةِ الخَطَرِ، وَتَجَنُّبُ التَّرَاخِي أَمَامَ التَّهْدِيدَاتِ. كَمَا أَنَّهَا تُعَلِّمُنَا أَنَّ الوَحْدَةَ بَيْنَ الـمسْلِمِينَ هِيَ دِرْعُهُمْ القَوِيُّ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّ الفُرْقَةَ وَالعَصَبِيَّةَ الجَاهِلِيَّةَ لَا تَجْلِبُ سِوَى الضَّعْفِ وَالهَزِيمَةِ، وَلَعَلَّ أَهَمَّ هَذِهِ الدُّرُوسِ هُوَ أَنَّ القَائِدَ الحَكِيمَ، كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْرِفُ كَيْفَ يُحَافِظُ عَلَى تَمَاسُكِ أُمَّتِهِ وَيَصُونُهَا مِنَ الدَّاخِلِ، فِي الوَقْتِ الَّذِي يُوَاجِهُ فِيهِ الأَخْطَارَ الخَارِجِيَّةَ بِثَبَاتٍ وَعَزِيمَةٍ، فلنجعَلْ من هذه الغزوةِ درسًا، ولنقتبِسْ من حكمَةِ النّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يجعلُنَا نحافِظُ على وطنِنَا من كلِّ الفِتَنِ والدّسَائِسِ، ولْنُفَوِّتْ الفرصَ على الحاقدين والمتربِّصِينَ بِنَا الدّوائِرَ من المُرْجِفِينَ والمُغْرِضِينَ والحاقدين. وفِي غَزْوَةِ بَنِي الـمُصْطَلِقِ، وَقَعَ حَادِثُ الإِفْكِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَشَدِّ الفِتَنِ عَلَى المسْلِمِينَ، فَقَد اتَّهَمَ الـمنَافِقُونَ أُمَّ الـمؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي اللّه عنها بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنهُ، وكَانَتْ فِتْنَةً عَصِيبَةً، هَزَّتْ أَرْكَانَ المجْتَمَعِ المسْلِمِ، وَزَلزَلَتْ قُلُوبَ المؤْمِنِينَ، لَكِنَّ اللّهَ تعالى أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ الأُمَّةَ دُرُوسًا عَظِيمَةً فِي الثَّبَاتِ وَالثِّقَةِ بِالحَقِّ، والتّصدِّي لكلِّ الإشاعاتِ الباطلَةِ، والأقَاويلِ الكاذبَةِ، والدّعَايَةِ المُضَلِّلَةِ المغرضَةِ، التي تحاوِلُ زعزعَةَ الاستقرارِ، وشيوعَ الفتنَةِ، وتمزيقَ الصَّفِّ، وتفريقَ الشّمْلِ. إِنَّ هَذِهِ الحَادِثَةَ تُعَلِّمُنَا دُرُوسًا مُهِمَّةً، أَوَّلُهَا أَنْ نَتَحَقَّقَ مِنَ الأَخْبَارِ قَبْلَ تَصْدِيقِهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا” الحجرات: 6؛ ثانيها الصَّبْرُ عَلَى البَلَاءِ وَالثِّقَةُ بِاللّهِ تَعَالَى، فَالمؤْمِنُ يَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ عِبَادَهُ، وَأَنَّ البَاطِلَ مَهْمَا عَلَا، فَمَآلُهُ إِلَى زَوَالٍ؛ وثالثها أَنَّ الفِتَنَ هِيَ اخْتِبَارٌ لِلثَّبَاتِ عَلَى دِينِ اللّهِ، وَأَنَّ المُؤْمِنَ الحَقِيقِيَّ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلشَّائِعَاتِ وَلَا يَهْتَزُّ أَمَامَ الأَكَاذِيبِ. تَذَكَّرُوا أَنَّ الماضِي مُحمَّلٌ بِالدُّرُوسِ وَالعِبَرِ، وَمَا وَاقِعُ الزَّمَانِ إِلَّا صُورَةٌ مِمَّا مَضَى، فَاحْذَرُوا مِمَّا يَبُثُّهُ الـمُغْرِضُونَ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُمْ، وَكُونُوا حَفَظةً للدّينِ، حُرَّاسًا لِلْحَقِّ، حُمَاةً للوَحْدَةِ.

 

الجزء الثاني والاخير من خطبة الجمعة من  جامع الجزائر