القصور بصحراء الجزائر إرث مادي خلفته الأجيال، دال على قدرة إنسان الصحراء على التأقلم مع المكان، رغم صعوبة المناخ، قدم لنا الأخير عمارة أثرية غاية في الروعة والتناسق، مستغلا كل ما توفر له من مواد محلية مرتبطة أساسا بجيولوجية المنطقة، لكن ما يعيق الباحثين في مجال عمارة القصور الصحراوية هو تحديد وضبط تواريخ إنشائها وتأسيسها، سواء كان في الفترات قبل وصول الإسلام أو بعد الفتح، لما استغلت كمحطات للرحلات التجارية المتوغلة جنوبا، من بين القصور الصحراوية المشيدة بصحراء الجزائر وتحديدا شمال منطقة بشار، قصر موغل الذي يعتبر أحد قصور شمال الساورة والذي يشوبه لبس وغموض في تحديد تاريخ تشييده وأهم التغيرات التي طرأت عليه عبر الأجيال المتعاقبة..
قصر “موغل” من قصور شمال ولاية بشار … هو بناء قائم وسور وقلعة وعمران أدركته عدة قرون، فهو قصر فاضت أنفاسه ولم يبق منه إلا الأطلال … فقد ذاع صيته في الآفاق وأدرك عمرانه أزمانا متباعدة…
ذاكرة التسعة قرون يغزوها الإسمنت
يصارع القصر القديم في مدينة بشار الجزائرية، عوامل السقوط وزحف الإسمنت، في غياب تام للعناية به وحمايته، من طرف السلطات المعنية، وهو الموغل في ذاكرة عمرها تسعة قرون. وكان هذا القصر يشكّل قلب المدينة النابض، قبل أن يصير اليوم بقعة منسية، ومحاطة بالأحياء السكنية الجديدة، مثل وسط المدينة و البراريك وحوبة والد، حتى أنه بات لا يظهر للعيان، إلا إذا تم دخوله صدفة، أو قُصد انطلاقًا من نية سياحية مبيتة.
عكس هذا الواقع الذي ظل مدعاة لانزعاج نخبة المدينة، وفاعليها في مجال حماية التراث المادي واللامادي، كان قصر بشار، خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، أين كانت المدينة تسمى “كولومب” على اسم جنرال قاد أول حملة عسكرية في المنطقة، تجمعًا نابضًا بالحياة والحركة، خاصة بعد اكتشاف الفحم عام 1908، وشق سكة للحديد تربط المنطقة بمينائي وهران والغزوات في الشمال الجزائري، وبوعرفة في المغرب ونيامي في النيجر وسيقو في مالي، وهو الخط الذي لم يعد اليوم شغّالًا.
بقايا سكان ومعاناة من أجل البقاء
ينتمي بقايا سكان القصر إلى قبائل متعددة، منها أولاد عدي وأولاد الحيرش وأولاد عياد، وينقسمون إلى جيلين، في نظرتهم إلى الإقامة في المكان، جيل قديم يرى فيها من دواعي الراحة والهدوء، والحفاظ على ذاكرة الأجداد، وجيل الشباب الذي يصبو إلى الإقامة في أحياء جديدة توفر له خدمات أفضل.
ولا يجد سكان القصر حرجا في السكن فيه لو كان قديمًا وكفى، أما أن يكون متهالكًا ومهددًا بالسقوط، فالأمر لا يتعلق بالتنكر للذاكرة، بل ممارسة للحق في عيش أريح، ويعتب سكانه على الذين يتهمون الجيل الجديد بالتكبر على السكن في مثل هذه القصور، ويتحدونهم أن يجربوا ذلك العيش أسبوعًا واحدًا فقط، ليختبروا قدرتهم على التأقلم مع الحر والأتربة المتساقطة على الأفرشة وفي الطعام، التراب يكون ممتعًا حين يكون تحت أقدامنا، لا فوق رؤوسنا.
بيوت قليلة مأهولة وأخرى معروضة للبيع
بيوت قليلة بقيت مأهولة، بالمقارنة مع تلك التي سقطت تمامًا، أو هي آيلة للسقوط، أو تلك المعروضة للبيع، إذ لا يمكن أن يلتفت الداخل إلى المكان، إلى أي جهة من جهاته، من غير أن تواجهه كلمة “للبيع” مرفوقة برقم هاتف صاحب العقار، فلا يسعه إلا أن يتذكر الفيلم الجزائري “كرنفال في دشرة”، إن كان قد شاهده، وهو الواقع الذي أدى إلى الإخلال بالانسجام المعماري الذي يميز القصر، ويمنحه هوية خاصة، بسبب الطابع الإسمنتي الذي قامت عليه البناءات الجديدة التي شيدت خلفًا لتلك القديمة، من طرف غرباء عن القصر قاموا بشرائها.
..وللتصوف مكان في القصر
يكشف القيّمون على ضريح “سيدي عبد الله بن صالح”، ذلك أن المنطقة موغلة في التصوف تفكيرًا وممارسة، أن الأسعار البسيطة للعقار داخل قصر بشار، بالمقارنة مع تلك التي في المدينة الجديدة، جعل التجار وأصحاب رؤوس الأموال، يتهافتون على شراء ما هو معروض للبيع، وهدمه لإقامة بناءات ذات طابع غربي، عادة ما تكون فضاءات مخصصة للتجارة، ولأن معظم عقارات القصر، بحسبه، آلت وراثةً إلى الجيل الجديد الراغب في الانتقال إلى فضاءات حضرية، فلن يطول الوقت، حتى يصبح القصر القديم موجودًا في الصور والأشرطة الوثائقية فقط.