احتفالات تجمع الجزائريين عبر ربوع الوطن, “يناير”.. عادات راسخة وإحياء لموروث الأجيال

احتفالات تجمع الجزائريين عبر ربوع الوطن, “يناير”.. عادات راسخة وإحياء لموروث الأجيال

تحتفل الكثير من العائلات بالجزائر خصوصا وشمال إفريقيا عموما، ليلة الثاني عشر إلى الثالث عشر من شهر جانفي، برأس السنة الأمازيغية المعروفة باسم ينّار أو ينّاير، وهو التقليد الذي لايزال يحافظ على قيمته التاريخية والاجتماعية الثقافية كأبرز المناسبات في الحضارة الأمازيغية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق.

تحيي  الجزائر، الأحد، رأس السنة الأمازيغية الجديدة الموافقة ليوم  12 يناير من كل عام، في جو من التفاؤل والغبطة ويسوده الإعتزاز بماضي الأجداد العريق  الذي اختلفت الروايات حول حقيقة الحكاية، وتوحدت في تاريخها الذي يعود الإحتفال به إلى 950 سنة خلت قبل الميلاد، حيث أنشأت الحضارة الأمازيغية رزنامتها الخاصة باعتمادها بداية التاريخ الأمازيغي.

 

يناير.. المؤكد أن الجميع أكل

”يناير” بداية السنة الأمازيغية التي تصادف الثاني عشر من السنة الميلادية من كل سنة، ويحتفل هذا العام بسنة 2970 من التقويم البربري، هذا الأخير الذي يسبق التقويم الميلادي بحوالي 10 قرون.

ويحتفل معظم سكان شمال إفريقيا بيناير، من خلال تقاليد رمزية توارثت من الأجيال السالفة، مثلا يحتفل الأمازيغ بشكل عام (الشاويين، القبائل، الشلوح، التوارق والشنوة) بإعداد طبق الكسكسي التقليدي الذي يتضمن سبعة أنواع من الخضر والبقول الجافة، بالإضافة إلى نوع أو نوعين من اللحوم الذي يكون في الغالب مأخوذا من خروف أو ديك ذبح خصيصا لهذه المناسبة، الذي يتناول منه كل أفراد العائلة، وإذا كان أحدهم غائبا ستكون حصته محفوظة، بل يوضع طبقه على الطاولة، هذه الوجبة أيضا يتم وضع القليل منها خارج المنزل، بل حتى بين أثاث المنزل للتأكد من أن كل الحشرات والحيوانات قد وجدت ما تأكله في رأس السنة الأمازيغية.

كانت ولا تزال هذه الطريقة التي يستقبل بها العام الجديد للتأكد من أن الكل أكل وكل الخيرات حاضرة، طريقة للتفاؤل بالعام الجديد، حيث لن يكون أحد فيها جائعا، وتكون كل الخيرات حاضرة وسط العائلة.

 

تقاليد موروثة وعادات راسخة وإحياء للتراث

يختلف شكل الإحتفال من منطقة إلى أخرى، فمثلا يعتقد الأمازيغ، أن الإحتفال بيناير ينبئ بسنة سعيدة وناجحة. ويعتبر طبق الكسكس أحد الوجبات الهامة، في ذلك الإحتفال. وتسيطر طقوس خاصة في هذا اليوم، عن سائر أيام السنة، حيث يتجمع أهالي البلدات والقرى، في ولائم كبيرة حول مائدة طعام، يمثلها طبق الكسكسي المحضر بالدجاج، وهو تقليد دأب عليه الأمازيغ في أرجاء الجزائر. ويردد الأهالي أهازيج من التراث، تعبر عن الأمل في موسم زراعي مزدهر، والإشادة بانتصار ملكهم على الفراعنة. وتختلف الطقوس من منطقة إلى أخرى، فتحضر الاحتفالات في الجزائر في مختلف مناطقها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، حيث يتخذ النايليون من هذا اليوم، يوما للفرح وللحزن معا وتشارك تقاليد أولاد نايل كل الجنوب الشرقي للجزائر. ويحرص سكان منطقة القبائل في بداية اليوم على ذبح ديك عن الرجال ودجاجة عن النساء ودجاجة وديك عن الحامل ويعتبر واقيا من الحسد والعين، وتقوم النساء بتحضير ”سكسو سوكسوم” أو ”الكسكس باللحم” والخروج إلى الحقول.

وفي الغرب الجزائري تتلون القعدات بـ ”الدقاق” التي تتكون من الفول السوداني والجوز ثم الطبق الرئيسي المتمثل في أكلة ”العيش” بالدجاج. أما بمنطقة الشرق فيتأهبون في كل 12 من جانفي، لاستبدال أثاث منازلهم في الصبيحة، وبعد ذلك صبغ جدران البيت ثم تأتي ”الشخشوخة” الأكلة المفضلة عند أهل الشرق.

أما منطقة العاصمة، فالاحتفال برأس السنة الأمازيغية يعتبر فرصة لتجمع الأسر حول مائدة واحدة، حيث تحيي العائلات تقاليدها الخاصة بهذه المناسبة بتحضير ”الرشتة” و”الكسكسي”، إلى جانب ”الدراز”، حيث تشتري العائلات في العاصمة وفي مختلف ولايات الوطن مجموعة معتبرة من المكسرات والحلويات التي يتم رميها على أصغر فرد من العائلة، حيث يوضع الطفل في قصعة ويتم توزيع الحلوى عليه، وهو ما يعتقد أنه يجلب الحظ السعيد ويجعل أيامه حلوة وجميلة.

 

روايات مختلفة على لسان الجدات

من أجل التعرف على الأسباب الحقيقية لهذه المناسبة الهامة في حياة الأمازيغ والدوافع الحقيقية للمناسبة التاريخية، تحدثت “الموعد اليومي” إلى بعض النساء كبيرات السن اللواتي يملكن رصيدا عن ذلك، حيث ذكرت الحاجة “حدة” المنحدرة من ولاية باتنة، أن السبب الأول للاحتفال بهذه المناسبة يعود، حسب كلام الأجداد، إلى أسطورة “أعثروس تغاط” وتعني بالعربية العنزة والتيس، إذ تدور تفاصيل القصة حول خروج إحدى العجائز من أجل غسل الصوف بعد ارتداء زوجها ملابس الرعي متجها إلى البراري للرعي، غير أن الثغاء المتكرر للتيس بسبب حرارة اليوم أزعج الشيخ كثيرا وهو ما جعله  يطلب من “ينّار، ينّاير” ضم يوم آخر بارد لأيامه من أجل التخلص من إزعاج التيس، ليطلب شهر يناير من فبراير قرضه يوما بمقولته المعروفة عند الأمازيغ “أعمي فورار سلفلي ليلة ونهار” وقد قوبل طلبه بالموافقة ليغدو ينّار بعدها 31 يوما، في الوقت الذي أصبح فورار أو فبراير 28 يوما في السنوات التي تلت الأسطورة التي شكلت نقطة الانطلاق الفعلي للذكرى.

من جهتها، روت جمعة من ولاية باتنة حكاية استهزاء العنزة بالجو الدافئ الذي ميز نهاره الأخير في قولها “بوه عليك يا ينّار”، في الوقت الذي رد عليها بقوله “نخلفلك نهار في بابا فورار ونخلي كراعك يلعبو بيهم لولاد الصغار”، حيث يتميز يوم من الأيام الثمانية الأولى لشهر فبراير ببرودة شديدة كرد فعل منه، فضلا على إشارتها في الوقت ذاته إلى إحيائهم هذه المناسبة تفاؤلا منهم بعام فلاحي جيد، لاسيما أن النشاط الفلاحي ميز حياة الأمازيغ منذ القرون الأولى وإلى غاية الوقت الحالي مع اختلاف في التركيز على نوع مخصص من النشاط الفلاحي الممارس من منطقة جغرافية إلى منطقة أخرى.

أما حليمة مليّح، المولودة بولاية خنشلة، فتذكر تقسيم الأمازيغ لهذه الذكرى إلى قسمين أو يومين: اليوم الثاني عشر من يناير ويسمى بالأمازيغية “إيض أقذيم”، أي الليلة القديمة في إشارة منها إلى أنها آخر يوم في السنة.

أما اليوم الثالث عشر، فيسمى “إيض أجديذ” أي الليلة الجديدة، كونها أول يوم في السنة الأمازيغية، مميزة بين طبيعة الاحتفال في كل مناسبة، حيث يتم التخلص من كل ما هو قديم من مأكولات وملابس خلال “إيض اقديم”، واقتناء كل ما هو جديد أثناء “إيض اجديذ” من طلاء حديث للمنزل واقتناء ملابس للأطفال وإعداد مختلف الوجبات التقليدية التراثية.

 

بين شيشناق والعجوز

يرتبط تاريخ رأس السنة الأمازيغية، في المخيال الشعبي بأساطير العجوز التي تحدت يناير، في حين تقول أسطورة أخرى، إن الأمازيغ يحتفلون بيناير ليبارك موسمهم الفلاحي لارتباطهم بأرضهم، فيما جاء في أسطورة ثالثة وهي الأقرب إلى الحقيقة، حسب عدد من المؤرخين في بلدان المغرب، وهي انتصار الزعيم الأمازيغي شيشناق على رمسيس الثاني، فرعون مصر.

واستطاع شيشناق أن يتولى حكم مصر ويحمل لقب الفرعون، وأسس بذلك لحكم أسرته “الأسرة الثانية والعشرين” في عام 950 ق.م التي حكمت قرابة قرنين من الزمان.

 

إبراز الموروث التاريخي والحضاري الأمازيغي

ويقول الباحث الأمازيغي حارش الهادي إن “ارتباط الاحتفال بالملك الأمازيغي شيشناق هي عملية رمزية فقط، فمختلف الدول تحسب تقويمها بداية من تاريخ معين، فمثلا بدأ المسلمون تقويمهم من يوم هجرة الرسول محمد من مكة إلى المدينة المنورة، بينما ينطلق تأريخ المسيحيين من يوم ميلاد النبي عيسى عليه السلام”.

ولفت الهادي إلى أنه تقرر في اجتماع الأكاديمية البربرية سنة 1962 بدء التقويم الأمازيغي من عام 950م، وهو تاريخ اعتلاء شيشناق عرش مصر بتأسيسه الأسرة الـ22 الأمازيغية.

ويرى الباحث في التراث الأمازيغي أرزقي فرّاد، “أن مناسبة يناير تحمل دلالات روحية واجتماعية واقتصادية وتاريخية”، موضحا، روحياً، كان الناس قبل ظهور الإسلام في عيد يناير يعملون من أجل ترضية الآلهة والأرواح المخفية، وعندما جاء الإسلام ألغى هذا الجانب، لكن بعض رواسبه مازالت في المجتمع حتى اليوم.

أما اجتماعيا فهو عيد يجمع أفراد الأسرة حول عشاء تقليدي، واقتصادياً كان الأجداد يأتون بأغصان الأشجار الخضراء تيمناً بمحصول زراعي جيد، بينما تاريخياً فهو تذكير بغزوة الملك الأمازيغي شيشناق لمصر عام 950 قبل الميلاد، الذي استطاع أن يؤسس الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين في مصر. وشيشناق هذا وصل إلى أورشليم (القدس حاليا) وانتصر هناك على العبرانيين اليهود.

وحيكت حول الحدث أساطير تختلف من منطقة إلى أخرى ترسخت في مخيلة سكان المنطقة ككل، فمنهم من يربط العيد الأمازيغي بالعجوز التي سبت شهر يناير ولم تكترث له، وتقول الأسطورة أن شهر “يناير” قد طلب من شهر فبراير التخلي له عن أحد أيّامه بعد أن تحدّته إحدى العجائز بالخروج مع عنزاتها الصغيرات لطهي طعامها خارج البيت، في عزّ برده وصقيعه، فما كان منه إلا أن قال لعمه فبراير “يا عم فبراير أعرني ليلة ونهارا، كي أقتل العجوز المتفوهة بالعار والتي أرادت أن تتحداني”. وكان له ذلك بتخلي فبراير عن يومين من عمره لصالح يناير الذي جمّد العجوز وعنزاتها، وإلى الآن يقول أجدادنا إنه توجد بمنطقة جرجرة صخرة تدعى “صخرة العجوز والعنزات”، حيث بالنظر إلى تلك الصخرة الضخمة يمكن أن نلاحظ عجوزا تحلب معزاتها، وبقربها بعض صغار الماعز.

ويستند الأمازيغ في تقويم يناير إلى ما يسمى بالتقويم الفلاحي الذي يتبعه الفلاحون في زراعاتهم لضبط السقي والغرس، إذ يشكل يناير نهاية موسم الحرث ومنتصف موسم المطر، وتتزامن السنة الأمازيغية الجديدة أيضا مع نفاد مخزون المؤونة التي يحتفظ بها الفلاحون تحسبا لفصل الشتاء، وتسمى محليا “العولة”.

 

الجزائريون يتوحدون حول يناير عرب وأمازيغ

لا يقتصر الإحتفال بيناير على الأمازيغ من الجزائريين فحسب بل تعداه إلى العرب، حيث اجتمع الجزائريون على الإحتفال بيناير في أجواء عائلية بهيجة تساهم بشكل كبير في ترسيخ أواصر المحبة والأخوة.

العائلات القبائلية المقيمة في العاصمة تحافظ على تقاليد الإحتفال بيناير نفسها التي تحتفي بها العائلات الأمازيغية في منطقة القبائل الكبرى، وتؤكد في هذا الصدد السيدة باية أنها حريصة كل الحرص على إحياء يناير في بيتها ومع أولادها وهي تجده فرصة لإحياء تقاليد بلدها وتتذكر فيه الأيام التي كانت تحتفي به مع أهلها، كما تحرص على أن تغرس هذا التقليد في أولادها حتى يتمسكوا أكثر بتقاليدهم وأصالتهم.

وفي هذا السياق أيضا، تؤكد الآنسة ليلى أنها ورغم أصولها الجيجلية، إلا أنها تحتفل برفقة عائلتها بمناسبة يناير الذي تعتبره تقليدا ينبغي الحفاظ عليه لأنه يرسخ العادات والتقاليد الجزائرية الأصيلة، ونفس الشيء تؤكده السيدة مروى التي احتفلت أول مرة بمناسبة يناير عند أهل زوجها ومن بعدها تعمقت لديها هذه الفكرة وترسخت لتصبح تقليدا سنويا لا يمكن أن تستغني عن الإحتفال به.

في حين هناك من العاصميات اللواتي لا يحتفلن بيناير، وتقتصر المناسبة لديهن بمشاركة جيرانهم الأمازيغ في إحتفائهم بالمناسبة التي يعتز بها القبائل خاصة والجزائريون عامة لعلاقتها الوطيدة مع تاريخ الجزائر وأبطاله الأحرار على حسب بعض الروايات.

 

لمياء بن دعاس