تقاليد متأصلة.. عادات راسخة وإحياء لموروث الأجيال
– ذكرى فرض الأمازيغ الأحرار منطقهم على أرض الفراعنة
تحيي، اليوم، الجزائر وعلى وجه الخصوص، منطقة القبائل ككل سنة، احتفالات رأس السنة الأمازيغية الجديدة الموافق ليوم 12 يناير من كل عام، في جو من التفاؤل والغبطة، يسوده الاعتزاز بماضي الأجداد العريق
الذي اختلفت الروايات حول حقيقة الحكاية وتوحدت في تاريخها الذي يعود إلى 950 سنة خلت قبل الميلاد، حيث وضعت الحضارة الأمازيغية رزنامتها الخاصة باعتمادها بداية التاريخ الأمازيغي.
بين رمزية الذكرى وتاريخية القصة
جنازة أمازيغية في أرض فرعونية وبداية التقويم
يعود بداية التقويم الأمازيغي إلى سنة 951 ق. م، هذا التاريخ الذي يمثل الكثير بالنسبة للأمازيغ، واختلفت بشأنه الروايات، فهناك رواية ارتبطت بحدث سياسي بارز في تاريخ الأمازيغ كالرواية التي تحدث عنها المؤرخون كثيرا، التي تعتبر منبع التقويم الميلادي التي تقول إن جيش الأمازيغ كان قويا واستطاعوا الضغط والتأثير بواسطته وبحضورهم القوي على الفراعنة، كما استطاعوا إلزام الفراعنة وقادة الجيش باحترام العادات والتقاليد التي تربوا عليها، وبالأخص ”الطقوس الجنائزية” التي كانوا يقومون بها، وتعتبر جنازة ”نامارت” والد ”شيشناق الأول”، هي التي ميزت الحدث وأقيمت على الأرض الفرعونية بتقاليد أمازيغية.
ويعتبر ”شيشناق الأول” الملك الأمازيغي الأول الذي حكم بلاد مصر الفرعونية وفقا للتقاليد والعادات الأمازيغية، كان ذلك في الفترة الممتدة بين 950 ق. م إلى غاية 929ق. م، وذلك بعد وفاة الفرعون ”بسوسينيس الثاني”.
وابتداء من هذا التاريخ أصبح الأمازيغ في شمال إفريقيا كلها يحتفلون بالعودة إلى ممارسة عاداتهم وتقاليدهم بكل حرية، ومنها بدأ في كل بلاد شمال إفريقيا، ومنها بداية التقويم الأمازيغي.
“أورويغ أيناير” حتى يكون أفراد العائلة محاطين بالأرزاق طيلة أيام السنة
“عشاء السنة” الذي تعدّه في الغالب امرأة طاعنة في السن ويُقدم وسط ديكور تقليدي، وفي الأخير تطرح العجوز سؤالا على الجميع مفاده هل شبعتم؟ وكما تقتضي العادة ينبغي أن يجيب كل فرد بعبارة “أورويغ أيناير” بمعنى شبعت يا يناير، وذلك حتى يكون أفراد العائلة محاطين بالأرزاق طيلة أيام السنة.
وللإشارة، ترتبط مناسبة الاحتفال بيناير بالعديد من الأساطير التي توارثها الآباء عن الأجداد فصارت بمثابة حكايات تنتقل من جيل لآخر، ومن ضمن الأساطير التي ما تزال تروى، أسطورة العجوز التي شتمت يناير قائلة: “لقد مرت أيامك وكأنها ربيع وها أنت ستغادر ليحل فورار (فيفري) الذي لن يصيبني فيه البرد ولن تعرقلني فيه الثلوج”.
ومن شدة الغضب استدان يناير يوما من شهر فيفري ليعاقب العجوز، وحسب الأسطورة خرجت العجوز إلى حقلها ومعها قطيعها، وهي مطمئنة بأن يناير رحل، لكن فجأة استدعى يناير الرياح القوية والثلوج، فهلكت العجوز مع قطيعها وانطلاقا من هذه الأسطورة أصبح شهر فيفري أقصر شهر في السنة.
يناير.. فاتح الشهر وبداية الخير
كلمة “يناير” تنقسم إلى شقين، الأول “ينا” ويعني الفاتح والثاني “ير” ويعني الشهر، ليتشكل بذلك معنى الفاتح من الشهر، وما يزال العنصر الأمازيغي يحتفل بهذه المناسبة تبعا لعادات وتقاليد موروثة عن الأجداد تتزامن مع موسم الزرع، الحصد، والجني الذي تطلق عليه أسماء عديدة كـ: إملالن، سمايم نلخريف، أضرف 30، أضرف 90، أحقان ازوزاون، إقورانن وغيرها… وتستقبل العائلات القبائلية هذه المناسبة بنحر الأضاحي وذلك بتقديم “أسفل” الذي يعني الأضحية والتي تختلف من عائلة لأخرى حسب إمكانياتها، حيث نجد عادات بعض قرى القبائل قائمة على ذبح ديك عن كل رجل ودجاجة عن كل امرأة، وديك ودجاجة معا عن كل امرأة حامل من العائلة، في حين أن بعض القرى لا تشترط نوع الأضحية، فالمهم حسب المعتقدات السائدة في المجتمع القبائلي هو إسالة الدماء لحماية العائلة من الأمراض والعين الحسود، كما أنها تقي أفرادها من المخاطر طول أيام السنة. وتقوم المرأة القبائلية بموازاة ذلك بتحضير مأكولات تقليدية مختلفة ومتنوعة يطلق عليها سكان منطقة القبائل اسم “امنسي نيناير”، وذلك لما له من تأثير بالغ على العائلة ورزقها طوال أيام السنة الجديدة، حيث أن تنوع أطباق هذه المأكولات يوحي بكثرة الرزق والأرباح وجني محصول وفير.
ويلعب طبق الكسكسي الذي لا يخلو أي بيت قبائلي منه، دورا رئيسيا في مائدة يناير مرفوقا بلحم الأضحية والخضر الجافة (المرق)، كما توضع إلى جانبه المأكولات التقليدية التي تكون أساسا من العجائن كـ “الخفاف أو السفنج، المسمن، ثيغريفين” لما لها من معان وقوة التمسك بالموروث عن الأجداد.
ومن العادات الأخرى السائدة في منطقة القبائل، حلق شعر المولود الذي يبلغ سنة من العمر عند حلول هذه المناسبة، حيث تخصص له أجمل الثياب ويوضع داخل (جفنة) كبيرة لترمي فوقه امرأة متقدمة في السن مزيجا من الحلويات والمكسرات والسكر والبيض.
ورغم اختلاف طرق الاحتفال بهذه المناسبة في منطقة القبائل، إلا أن العائلات تشترك في اجتماع أفرادها حول مائدة عشاء يناير، الذي يبقى مناسبة تتوارثها الأجيال.
يناير… المؤكد أن الجميع أكل
يحتفل معظم سكان شمال إفريقيا بيناير، وذلك من خلال تقاليد رمزية توارثت من الأجيال القادمة، مثلا يحتفل الأمازيغ بشكل عام (الشاوية، القبائل، الشلوح، التوارق والشنوة) بإعداد طبق الكسكسي التقليدي الذي يتضمن سبعة أنواع من الخضر والبقول الجافة، بالإضافة إلى نوع أو نوعين من اللحوم الذي يكون في الغالب مأخوذا من خروف أو ديك ذبح خصيصا لهذه المناسبة، الذي يتناول منه كل أفراد العائلة، وإذا كان أحدهم غائبا ستكون حصته محفوظة، بل يوضع طبقه على الطاولة، هذه الوجبة أيضا يتم وضع القليل منها خارج المنزل، بل حتى بين أثاث المنزل للتأكد من أن كل الحشرات والحيوانات قد وجدت ما تأكله في رأس السنة الأمازيغية.
كانت وما تزال هذه الطريقة التي يستقبل بها العام الجديد للتأكد من أن الكل أكل وكل الخيرات حاضرة، طريقة للتفاؤل بالعام الجديد، حيث لن يكون أحد فيها جائعا، وتكون كل الخيرات حاضرة وسط العائلة.
تقاليد موروثة وعادات راسخة واحياء للتراث
يختلف شكل الاحتفال من منطقة إلى أخرى، فمثلا يعتقد الأمازيغ، أن الاحتفال بيناير ينبئ بسنة سعيدة وناجحة. ويعتبر طبق الكسكس إحدى الوجبات الهامة، في ذلك الاحتفال. وتسيطر طقوس خاصة في هذا اليوم، عن سائر أيام السنة، حيث يتجمع أهالي البلدات والقرى، في ولائم كبيرة حول مائدة طعام، يمثلها طبق الكسكسي المحضر بالدجاج، وهو تقليد دأب عليه الأمازيغ في أرجاء الجزائر. ويردد الأهالي أهازيج من التراث، تعبر عن الأمل في موسم زراعي مزدهر، والإشادة بانتصار ملكهم على الفراعنة. وتختلف الطقوس من منطقة إلى أخرى، فتحضر الاحتفالات في الجزائر في مختلف مناطقها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. فالنايليون يتخذون من هذا اليوم، يوما للفرح وللحزن معا وتشارك تقاليد أولاد نايل كل الجنوب الشرقي للجزائر. ويحرص سكان منطقة القبائل في بداية اليوم على ذبح ديك عن الرجال ودجاجة عن النساء ودجاجة وديك عن الحامل ويعتبر واقيا من الحسد والعين، وتقوم النساء بتحضير ”سكسو سوكسوم” أو ”الكسكس باللحم” والخروج إلى الحقول.
وفي الغرب الجزائري تتلون القعدات بـ ”الدقاق” التي تتكون من الفول السوداني والجوز ثم الطبق الرئيسي المتمثل في أكلة ”العيش” بالدجاج، أما منطقة الشرق فيتأهبون في كل 12 من جانفي، لاستبدال أثاث منازلهم في الصبيحة، وبعد ذلك صبغ جدران البيت ثم تأتي ”الشخشوخة” الأكلة المفضلة عند أهل الشرق.
أما منطقة العاصمة، فالاحتفال برأس السنة الأمازيغية يعتبر فرصة لتجمع الأسر حول مائدة واحدة، حيث تحيي العائلات تقاليدها الخاصة بهذه المناسبة بتحضير ”الرشتة” و”الكسكسي”، إلى جانب ”الدراز”، حيث تشتري العائلات في العاصمة وفي مختلف ولايات الوطن مجموعة معتبرة من المكسرات والحلويات التي يتم رميها على أصغر فرد من العائلة، حيث يوضع الطفل في قصعة ويتم توزيع الحلوى عليه، وهو ما يعتقد أنه يجلب الحظ السعيد ويجعل أيامه حلوة وجميلة.
الاحتفال بيناير في تيزي وزو
الأضحيات لإبعاد الحسد.. والمأكولات للأيام الملاح!
تحتفل العائلات الأمازيغية بميلاد السنة الجديدة، على طريقتها الخاصة، إلا أن القاسم المشترك يكمن في الذبح، ففي تيزي وزو تنحر أضحية تتمثل غالبا في الديك أو الدجاجة، فبعض العائلات تذبح ديكا عن كل رجل ودجاجة عن كل امرأة كما تذبح دجاجة وديكا عن كل امرأة حامل.
لكن بعض العائلات لا تشترط نوع الأضحية، فالمهم هو أن تسيل دماء حيوان أليف باعتبار أن الأضحية أو “أسفل” كما يسمى باللهجة المحلية بتيزي وزو تقي الناس من الأمراض، أذى العين وتبعد المخاطر عنهم طيلة أيام السنة.
وتعمد النساء خلال هذه المناسبة إلى إعداد أطباق متنوعة تفاؤلا بأيام مليئة بالخير والبركة وتجنبا للمصائب وسوء الحظ، كما يعتقد البعض من كبار السن، وتشترط مائدة “يناير” طبق الكسكس المملوء بلحم الأضحية، إضافة إلى بعض المأكولات التقليدية مثل “البغرير”، “المسمن” وخبز الشعير، وترافقها مأكولات محضرة بالخميرة تعبيرا عن أمنية تضاعف أرزاق العائلة.
ومن العادات الأخرى السائدة في منطقة القبائل حلق شعر الطفل الذي يبلغ سنة من العمر عند حلول هذه المناسبة، حيث يلبس الطفل أجمل الثياب وبرنوسا أبيضا ثم يوضع داخل صينية كبيرة (الجفنة) لترمي فوقه امرأة متقدمة في السن خليطا من الحلويات والمكسرات والسكر والبيض.
ورغم اختلاف طرق الاحتفال بهذه المناسبة في منطقة القبائل، إلا أن العائلات تشترك في اجتماع أفراد العائلة حول مائدة “عشاء السنة”.
عز الدين كنزي: مؤسسات الدولة أهملت هذه المناسبة المتعلقة بهويتنا
قال أستاذ اللغة الأمازيغية بتيزي وزو عز الدين كنزي إن هناك بعدا تاريخيا وثقافيا للاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة أو ”يناير” التي نجدها في الدراسات التاريخية والخطابات الشعبية، فمناسبة يناير ترمز إلى انتصار الملك البربري ”شيشناق” على الفراعنة منذ أكثر من ألفي سنة، ومنذ ذلك الوقت تم تأريخ هذا اليوم الذي يعتبر في الثقافة الشعبية البربرية بداية للسنة الأمازيغية.
“وما أهتم به أكثر هو البعد الاجتماعي والبعد الثقافي والأنثروبولوجي ليناير، ففي البعد الثقافي تدخل هذه المناسبة ضمن الاحتفالات الشعبية أو ما نسميه في الأنثروبولوجيا ”نظرية الاحتفال”، حيث نجد العديد من المجتمعات الإنسانية التي تحتفل بالسنة الجديدة بالعديد من النشاطات التي تتمثل أساسا في الأضحية والموسيقى والمراسيم الاحتفالية، فالمجتمعات البربرية عموما تقوم بذبح الأضحية المتمثلة أساسا في الدجاج، أما بالنسبة للموسيقى، ففي بعض المناطق على غرار بني سنوس والمناطق الغربية من الجزائر، وفي المغرب يتم إحياء هذه المناسبة بواسطة مهرجانات تعلن من خلالها عن السنة الجديدة، أما فيما يتعلق بالطقوس والتقاليد فتتمثل في عشاء يناير المتمثل عموما في طبق الكسكس مع اللحم والذي يحضر ليلة قبل المناسبة.
أما عن التغييرات التي مست الاحتفالات بهذه المناسبة في منطقة القبائل، أكد كنزي بأن الاحتفال بيناير في معظم القرى في منطقة القبائل يتشابه، ولكن هذه الاحتفالات شهدت تغييرات متعددة، ففي منطقة الصومام مثلا يحضر سكان المنطقة سبعة أطباق مختلفة للاحتفال بهذه المناسبة وهذا ما يدل على أهميتها، كما تقوم الآن بعض الجمعيات الثقافية بمنطقة القبائل بتحضير احتفالات السنة الأمازيغية الجديدة المرتبطة بهويتنا.
من جهة أخرى، يعتقد أن المعرفة الرمزية لمناسبة يناير تأتي مع مرور الوقت سواء تعلق ذلك بمنطقة القبائل أو مختلف المناطق الجزائرية التي تتكلم الأمازيغية وحتى بعض المناطق الأخرى في الجزائر، “فمعظم الولايات تحتفل بهذه المناسبة سنويا وكل على طريقته، وعلى وسائل الإعلام الآن أن تحسّس المواطنين بأهمية هذه المناسبة وإعادة الاعتبار لها”.
أما عن رأي الأستاذ بالفرق بين الاحتفال الرسمي في الجزائر بالسنة الميلادية والسنة الهجرية رغم كونها جزءا من هويتنا، ردّ الأستاذ “هذا يجسد العلاقة الرسمية بثقافة الشعوب، فالاحتفال بأول محرم كبداية للسنة الهجرية الجديدة يدخل ضمن الثقافة الإسلامية، وهذا له علاقة مباشرة بالسلطة، وعلى عكس ذلك، فإن يناير يعتبر لدى البعض مجرد طقوس شعبية اجتماعية وليست رسمية، وبالرغم من إهمال مؤسسات الدولة لهذه المناسبة التي تعتبرها مجرد طقوس الأجداد، إلا أن الحركات الثقافية الأمازيغية اهتمت بها عن طريق وسائل الإعلام والجمعيات الثقافية، واستطاع ”يناير” أن يغطي مساحة مهمة في مجتمعنا، فهذه المناسبة التي تعتبر مرجعا لهويتنا الوطنية لها من الأهمية ما يجعلها مناسبة تاريخية وثقافة شعبية”.