كان لا بد للأمير عبد القادر بعد ذلك من تحديد المبادئ العامة لأعماله القتالية والتي تتناسب مع الطبيعة الجيوستراتيجية للإقليم، وحجم القوى، والتي لخصتها المقولة التالية: “إن العرب لا ينكرون قوة فرنسا وقدرتها، غير أننا لا نحاربكم محاربة نظام وترتيب، ولكن محاربة هجوم وإقدام. وإن خرجت كتائبكم وقواكم نتقهقر أمامها متوغلين في الصحاري بأهلنا وأثقالنا، ولا نترك مجالا للقتال حتى ترجعوا، ثم نبقى على هذه الحال حتى تضعف شوكتكم وتلين قوتكم” وكانت هذه المقولة التي خاطب نائب الأمير فيها القائد الفرنسي “دي ميشيل” إيجازا لأسس “حرب الحركة”. وقد سبقت الإشارة إلى ما اتخذه الأمير من إجراءات إدارية للتخفيف من حركة القوات، وعدم إرهاقها بالأعباء التموينية “إقامة المطامير” وتأمين الخيول ووسائط النقل. غير أن عبقرية الأمير في مجال تطوير حرب الحركة أسفرت عما عرف باسم “الزمالة” وهي عبارة عن جزء من تنظيم “المدينة المتنقلة الضاربة في عرض الصحراء” . وتعتبر “الزمالة” مركزا حربيا، ومقرا مدنيا، بها مائتا ألف نفس، وكان الأمير يبث من هذه المدينة المتحركة عيونه “جواسيسه” ويرسل منها بعوثه، وفيها يستعد للحرب. ولم تزل تزداد قوة وتتسع حتى أصبحت ملجأ عظيما وحصنا منيعا. وقد عين لحراستها وحماية حوزها أربع قبائل من العرب وفرقة من الجند النظامي. ولقد طارت شهرة هذه المدينة المتحركة “الزمالة” التي كانت تملأ النجود والأغوار وهي تتردد بين الحل والترحال، بين الإقامة والانتقال. وقد حرص الأمير على جعل نظام التعسكر محترما من الجميع، ومنظما تنظيما دقيقا. وفي ذلك يقول: “عندما أضرب خيمتي يعرف كل أحد المكان الذي يشغله. لقد كان معي ثلاثمائة أو أربعمائة جندي نظامي، إلى جانب الفرسان غير النظاميين من بني هاشم – الاغريسيين – الذين كانوا مخلصين لي إخلاصا شديدا. ولم يكن من السهل الوصول إلي. ولم أفعل ذلك حرصا على أمني الشخصي. ولكني شعرت بضرورة تأمين متطلبات الجهاد في سبيل الله. وقد وضعت فيه ثقتي لحماية الذراع الذي يحمل لواءه”. وكانت الزمالة بحجمها الكبير، تحتاج لموارد مائية ضخمة، لا سميا في المناطق الصحراوية، فحيثما حلت، تجف الآبار ومياه الجداول. ولهذا أقام الأمير قوة خاصة من الشرطة لمنع تلويث المياه أو تبذيرها من قطعان الماشية. أما المواد التموينية “الحبوب والقمح والشعير” فكانت تجلب إلى الزمالة، أو تقوم قبائل الشمال بتقديمها عندما يطلب إليها ذلك.
من كتاب – جهاد شعب الجزائر-