الجزائر تحيي الذكرى 61 لإنشائها “الإذاعة السرية”.. صوت الجزائر المدوي في ثورة التحرير المظفرة

الجزائر تحيي الذكرى 61 لإنشائها “الإذاعة السرية”.. صوت الجزائر المدوي في ثورة التحرير المظفرة

تحيي الجزائر، هذا السبت، الذكرى الواحدة والستين لإنشاء الإذاعة السرية التي تأسست في 16 ديسمبر 1956، وكانت بمثابة الحلم الذي تحقق للجزائريين، فقد كان حلم بعث صوت الجزائر المسموع عبر الأثير

بالنسبة للثوار أمرا مستحيلا، ولم يكن أحد منهم يؤمن بأنه يأتي يوم ويصبح للجزائر فيه إذاعة وهي لا تزال تحت وطأة الاستعمار.

 

رغم كل الظروف كان لابد من التفكير الجدي في ضرورة وجود منبر إعلامي يوصل صوت الثورة إلى الشعب الجزائري، مما يدعم التفاف الوطنيين حول فكرة النضال من أجل تحقيق النصر والكفاح من أجل الحصول على السيادة.

ونظرا لأن الجزائريين كانوا يعتبرون أن الثورة الجزائرية في حد ذاتها كانت معجزة كبيرة حققها الشعب الجزائري، فإن بداية تحقيق حلم إنشاء الإذاعة الجزائرية السرية كان في منتصف العام 1656، حيث تزايد إقبال الطلاب على النضال الثوري والتحاقهم بصفوف جيش التحرير الوطني، وبدأ الحس النضالي يتغذى ويتعزز في وجود هؤلاء الوطنيين، فتحقق حلم إنشاء الإذاعة الجزائرية السرية بمساعدة الإخوة من مصر وتونس وغيرها من البلدان الشقيقة.

 

جابت الصحاري وأوصلت صوت الثورة والشعب

كانت الإذاعة السرية في بدايتها على ظهر شاحنة تجوب الفيافي على الحدود الجزائرية المغربية، متخفية من العدو الفرنسي الذي لم يتمكن من تحديد موقعها.

ونشير إلى أن المرحلة الأولى لهذه الإذاعة بدأت بجهاز إرسال من نوع PC 610 متنقل عبر شاحنة من نوع GMC أخرجت من القاعدة الأمريكية بالقنيطرة بالمغرب عام 1956.

وكانت هذه الإذاعة تبث برامجها في منطقة الريف المغربي الخاضع سابقا للحكم الإسباني ساعتين يوميا على الموجات القصيرة حسب التقسيم التالي:

1- ساعة كاملة باللغة العربية تذيع أخبارا عسكرية، سياسية، تعليقا بالفصحى، تعليقا بالدارجة.

 2- نصف ساعة بالأمازيغية.

 3-نصف ساعة بالفرنسية.

 

…هنا إذاعة الجزائر المكافحة

استطاعت الثورة الحصول على أجهزة اتصالات متطورة أمريكية الصنع، وخصوصا تلك التي تستعمل لربط الوحدات الكبيرة وعلى مسافات بعيدة، بعد إدخال تعديلات عليها أصبح من الممكن استعمالها في البث الإذاعي. وكانت هذه الإذاعة السرية تبدأ برامجها بعبارة “هنا إذاعة الجزائر المكافحة” أو “صوت جبهة التحرير يخاطبكم من قلب الجزائر”. وكان يبث بالعربية والفرنسية والقبائلية. وتضمنت برامج الإذاعة البلاغات العسكرية والتعاليق السياسية والرد على الدعاية الاستعمارية وغيرها من البرامج ذات الطابع الدعائي والتعبوي.

وكان أول مدير للإذاعة السرية المرحوم محمد السوفي المتوفى في ديسمبر 2006، ولم يلبث صوت الجزائر أن انطلق يدوي من الإذاعات العربية الشقيقة بصوت المرحوم عيسى مسعودي الذي قال عنه الرئيس الراحل هواري بومدين: “نصف انتصارات الثورة بفضل جيش التحرير ونصفها الآخر بفضل صوت عيسى مسعودي”.

 بدء بالرباط فطنجة ثم تونس، لتفتح أغلب الإذاعات العربية برنامجا خاصا يدعم الثورة الجزائرية، مثلما فعل صوت العرب من القاهرة، والإذاعة الليبية من طرابلس وبنغازي، والكويت وبغداد وجدة ودمشق وغيرها. ما يمكن أن يقال عن الإذاعة السرية فقد تميزت بأنها كانت جزائرية مائة بالمائة في برامجها وتوجيهاتها وإطاراتها السياسية والتقنية على حد سواء.

 

عيسى مسعودي.. صوت أرعب الاستعمار

 

ولد الإعلامي محمد عيسى مسعودي في 12 ماي 1931 في وهران من عائلة فلاحية فقيرة. تعلم اللغة العربية في المدارس القرآنية قبل أن يلتحق بالزيتونة حيث تحصل منها على شهادة الأهلية والتحصيل، تعلم في مدرسة الفلاح على يد الشيخ الزموشى ثم أرسل سنة 1946 إلى معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، أين درس بها ثلاث سنوات ليتابع دراسته بعدها في جامع الزيتونة بتونس وانخرط في حركة انتصار الحريات الديمقراطية وكان عضوا نشيطا شغل منصب رئيس جمعية الطلبة الجزائريين بتونس عام 1956.

كما التحق بصفوف الثورة، حيث أشرف سنة 1956 على انطلاق برنامج صوت الجزائر العربية من الإذاعة التونسية، ثم ترك مكانه للمرحوم محمد بوزيدي وانتقل إلى الإذاعة السرية لجيش التحرير على الحدود المغربية المعروفة بـ “صوت الجزائر الحرة”، فكان رئيس تحريرها وأشهر مذيعيها، كما عرف عيسى مسعودي بالتفاعل الشديد أثناء التعليق على الأحداث السياسية والعمليات العسكرية، وهذا راجع لوطنيته الشديدة إلى درجة أن قيادة الثورة كانت تعتبر إذاعة صوت الجزائر الحرة الولاية التاريخية السابعة. في 12 جويلية 1959 انتقل إلى إذاعة الناظور بالمغرب بعد التحاقه بجهاز اللاسلكي التابع لجيش التحرير الوطني، وبها عين بإذاعة الجزائر الحرة المكافحة في أكتوبر 1961 عاد إلى تونس ليشرف على صوت الجزائر من إذاعة تونس حيث كان يعد حصتين أسبوعيتين مدة كل حصة 15 دقيقة. وكان لنشاطه هذا الأثر البليغ في الرفع من معنويات أعضاء جيش التحرير والشعب الجزائري. وقد قال الرئيس الراحل هواري بومدين إن “صوت عيسى مسعودي شكل نصف الثورة”. كان المرحوم عيسى مسعودي أول من تقلد منصب المدير العام للإذاعـة والتلفزيون بعد الاستقلال كما شغل منصب سفير للجزائر في بعض دول الخليج وتوفي عيسى مسعودي في ديسمبر 1994.

وأكد الوزير الأسبق للإعلام والمجاهد لمين بشيشي على الدور الفعال الذي قام به الإعلامي المجاهد الراحل عيسى مسعودي في إيصال صوت الجزائر المكافحة إلى الرأي العام العربي والدولي من خلال ما كانت تصدح به حنجرته الذهبية التي عبرت بإخلاص وقوة عن قداسة الثورة وعدالة القضية الجزائرية، حيث ساهمت في تأجيج همم المجاهدين والمناضلين لنيل الاستقلال.

واعتبر لمين بشيشي في تصريح سابق أن عيسى مسعودي يعد بمثابة الصوت الرمز والبارز بامتياز في الثورة الجزائرية نظرا لقوة حباله الصوتية التي تجاوزت أبعد الحدود بشهادة كل من يعرفه، مضيفا بالقول “قال لي مدني حواس وهو صحفي في الإذاعة السرية آنذاك في بعض الأحيان يكون النص هزيلا لكن عندما ينطق به عيسى مسعودي يلتهب نارا”.

وأضاف أن صوت عيسى مسعودي ساهم في إعطاء الحماسة للمجاهدين للقيام بعمليات عسكرية والتحاق الكثير من الجزائريين بصفوف الثورة الجزائرية من خلال تنشيطه لبرنامج “صوت الجزائر” سنة 1957 والذي يتم تسجيله بلحن مميز لنشيد “قسما” لمدة نصف ساعة عبر أثير أمواج الإذاعة التونسية حيث كان يشرف على الأخبار العسكرية ويشيد بشجاعة ونضال المجاهدين والفدائيين الجزائريين، وكان له الفضل في إسماع صوت الثورة الجزائرية في العديد من العواصم في الرباط وطنجة وتونس وطرابلس وبن غازي  وفي دمشق والقاهرة.

 

رد الفعل الفرنسي وعجزه عن تشويش بث الإذاعة

وقد تفطنت السلطات الفرنسية لأهمية الإذاعة في حربها ضد جبهة وجيش التحرير الوطني، فراحت تنشئ عدة محطات للتشويش في كل من الجزائر وقالمة وسكيكدة وسطيف وتيزي وزو والمدية وسور الغزلان وتلمسان، إلا أن تغيير مكان الإذاعة المستمر حال دون تحقيق السلطات الاستعمارية أهدافها. استطاعت الإذاعة أن توصل صوت الثورة إلى كامل ربوع الوطن الجزائري.

إن صوت الجزائر الحرة المكافحة، ليس مجرد برامج إذاعية للترفيه عن الشعب، ولكنه لون من ألوان الكفاح الشاق ضد أكاذيب الاستعمار وضد سمومه، وهي سلاح جديد أكسب الثورة قوة إضافية، فكان هذا الصوت يصل إلى الجزائريين أينما كانوا فيشد من عزائمهم، ويعزز إيمانهم بثورتهم ويحثهم على مواصلة السير في الطريق الشاق، طريق النصر.

 

من الإذاعة السرية إلى زمن الرقمنة

 بعد استقدام الاحتلال الفرنسي الصحف إلى الجزائر، عمل على استغلال البث الإذاعي في دعم حملته الإعلامية والدعائية لحشد الرأي العام الفرنسي الجزائري والعالمي، حيث أنشئت الإذاعة بالجزائر أواخر العشرينيات أي في نفس الفترة التي انتشرت فيها بفرنسا وباقي الدول العربية.

ويظهر استغلال المستعمر لهذه الوسيلة من خلال الدعاية، فمنذ إنشاء الإذاعة الجزائرية ظلت تعمل تحت وصاية الحكومة الفرنسية وتبث برامجها باللغة الفرنسية حتى 1943م، حيث أصبحت تبث أيضا باللغة العربية ومنذ 1945م بدأت تعمل تحت إشراف اللجنة الجزائرية للإذاعة التي تتكون من الحاكم العام وممثلين عن الجالية الأوروبية بالجزائر وممثلين عن المسلمين وشخصيات هامة تهتم بشؤون الإذاعة، وفي سنة 1948م عمدت السلطات الاستعمارية لإنشاء إذاعة ناطقة باللهجة الأمازيغية، كما عرفت هذه المرحلة إنشاء استوديوهات للبث ومحطات لتقوية البث الإذاعي عبر الموجات القصيرة والمتوسطة بأكبر المدن الجزائرية بهدف توسيع نطاق البث وجمهور المستمعين.

ورغم هذا الاستغلال الاستعماري للإذاعة إلا أنها كانت منبرا للثورة الجزائرية، وذلك عن طريق نقل صوتها إلى كل أنحاء العالم وشرح القضية الجزائرية ووجدت في الإذاعات العربية الدعم الكبير، ففي سنة 1956 كان صوت الثورة الجزائرية يبث من:

– الإذاعة السرية التي أنشأتها جبهة التحرير مع الحدود المغربية.

– من طنجة والرباط، صوت الجزائر من تونس ومن القاهرة، وسنة 1958م امتد صوت الثورة الى بنغازي وسوريا، الكويت، العراق، الأردن والسعودية، فما أكبر دور هذه الوسيلة.

وبعد استقلال الجزائر كرست الدولة الجديدة هذه الوسيلة بعد تعميمها طبعا للبناء، خاصة أنه وقتها كانت نسبة الأمية في المجتمع 88 بالمائة، ولهذا فالإذاعة كانت تصل لأذن كل شخص متعلم أو جاهل على خلاف الوسائل الإعلامية المتاحة وقتها، كما أن الحكومة ركزت على توسيع مجال البث وتوفير أجهزة الاستقبال لكل الأفراد.

وبعد مرحلة البناء عملت الإذاعة بالجزائر على:

– الاستقلال عن التلفزيون الجزائري من حيث الإدارة والتسيير

– تحديث أجهزة البث عن طريق التخلي التدريجي عن أنظمة البث التماثلي والانتقال إلى الرقمي

– خلق فضاء متنوع بين الأخبار والتعليم والتسلية والتثقيف. ومنذ التسعينيات إلى يومنا هذا لكل ولاية إذاعة محلية خاصة على الأقل.