إن البعث والإحياء للواقع الإسلامي الراكد، الذي يسوده التقليد والجمود على مستوى الداخل، ومحاولات التغريب والخروج عن منظومته المعرفية وأصوله الحضارية على مستوى الوافد، لا يكون ولن يكون إلا بالعودة إلى الرسالة “قيم الكتاب والسنة” ، ومعايرة الواقع بها، بحيث ينظر إلى الواقع من خلالها، وتستوحى الحلول لمعاناة الواقع ومشكلاته في هـديها، وأن ينطلق دعاة الإصلاح من داخل الأمة، بكل ظروفها ومعاناتها وميراثها الثقافي ومعادلتها الاجتماعية: ” رسولا منهم ” ، والتأكد من أن أية طروحات وافدة من خارج الأمة، محكوم عليها بالفشل.. ولا نعتقد أننا بحاجة إلى الأدلة على أن ينطلق الإصلاح من تلاوة القرآن وتدبر آياته: ” يتلو عليهم آياته ” .. وأن تؤسس مناهج التربية والتزكية وتحرير الضمائر وتطهير النفوس ” ويزكيهم ” ، على قيم الكتاب والسنة .. وأن تتمحور مناهج بناء المرجعية في أنظمة التعليم على قيم الكتاب والسنة: ” ويعلمهم الكتاب والحكمة ” ، فيصبح الكتاب والسنة، مصدري المعرفة والتربية والثقافة والأخلاق، كما هـما مصدرا التشريع. فلقد كرس الشيخ ربع قرن من حياته للقرآن، بعد أن حفظه، فالقرآن صاغ نفسه وهز كيانه، واستولى على قلبه، فاستوحاه في رسم منهجه طوال حياته، وترسم خطاه في دعوته، وناجاه ليله ونهاره، يستلهمه ويسترشده ويتأمل فيه، فيعب منه، ويستمد علاج أمراض القلوب وأدواء النفوس، ويذيب نفسه ويبيد جسمه الهزيل في سبيل إرجاع الأمة الجزائرية إلى الحقيقة القرآنية، منبع الهداية الأخلاقية والنهوض الحضاري، وكان هـمه أن يكون رجالا قرآنيين يوجهون التاريخ، ويغيرون الأمة، ولذلك فإنه جعل القرآن قاعدة أساسية ترتكز عليها تربيته وتعليمه للجيل، قال: “فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم”. ولم يقتصر الشيخ ابن باديس رحمه الله على نقد مناهج التعليم والتربية في المدارس التي أنشأتها فرنسا، القائمة على إلغاء الهوية العربية الإسلامية وتذويب الشعب الجزائري، والعمل على تقديم البدائل من المدارس والمعاهد الخاصة، وكتاتيب تحفيظ القرآن، وإنما عانى من واقع المدارس والمعاهد ومؤسسات التعليم الشرعي القائمة، التي أصيبت بالعجز والعقم، وتحولت من إدراك المقاصد وتحقيق الأهداف، فأضاعت بذلك الأجر والعمر، وانعزلت عن ضمير الأمة، وبعث نهضتها، وسمحت بامتداد الآخر من خلال مناهج التعليم الاستعماري المتطورة، وكان يلمس ذلك في نفسه أثناء دراسته في جامع الزيتونة، لذلك تعرض لنقد طرق التدريس في جامع الزيتونة، وبين أنها ليست وسيلة تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية كما يتصوره، بل إنما تكون ثقافة لفظية يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سنين الدراسة.
الكاتب محمد حميداتو