-
شهداء المهنة.. أبرياء اغتالتهم أيادي الغدر في أصعب مرحلة عاشتها الجزائر
ظلت الصحافة الجزائرية شاهدة على كل الفترات التاريخية التي عاشتها البلد، موثقة الأحداث من مرحلة قبل الاستقلال وبعده، مرورا بالفترة الأصعب تاريخيا، وهي مرحلة العشرية السوداء والتي شهدت قتل ما لا يقل عن 100 صحفي، لا ذنب لهم سوى أنهم صحفيون.
تحيي الصحافة الجزائرية يومها الوطني، اليوم، في ظل دعم رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، لها وتأكيده على مواصلة توفير كل وسائل الدعم والإسناد لقطاع الإعلام من أجل تحقيق الاحترافية الفاعلة، وكذا الأخذ بعين الاعتبار الصرامة في ضبط آليات المعلومة المقدمة.
الصحافة والنضال حتى الاستقلال
برزت المقاومة الفكرية خلال الاستعمار الفرنسي والتي جسدها الشعب الجزائري فيما يسمى بالصحافة، وهذه الأخيرة كان لها دور فعال في توجيه الرأي العام وتسوية الأوضاع الداخلية وحتى الخارجية، وقد تنوعت الصحف آنذاك بتعدد الأحزاب السياسية ذات التوجه الإصلاحي أو الاستقلالي، حيث كانت الصحافة جماهيرية تحررية شعبية، وكان الاستقلال وتحقيق السيادة الوطنية هو مضمونها سواء بالكتابة أو بالصورة.
ورغم صعوبة الظروف خلال الفترة الاستعمارية، إلا أن المصورين الصحفيين الجزائريين حاولوا توثيق الوقائع وكذا تنوير الرأي العام على قلتهم، فقد كانوا جزءا لا يتجزأ من النضال الثوري والسياسي. ولم يكن سلاحهم سوى آلات تصوير بسيطة خلدوا بها أهم أحداث ثورة التحرير وكذا صور المجاهدين وبعض اجتماعاتهم، وكان إلى جانبهم بعض المصورين الأجانب الذين عملوا في سرية تامة داخل المجتمع الجزائري، فكان عمل الصحافة ينصب على تقوية الوعي والحس السياسي والثوري، وهو ما ساعد في التعريف بالقضية الجزائرية لدى الرأي العام العربي والدولي.
وبطبيعة الحال حاول المستعمر الفرنسي الظالم إسكاتهم، فشهدت جل الصحف في تلك الفترة -سواء الناطقة باللغة العربية أو الفرنسية- مضايقات من طرف المستعمر الغاشم، فكانت تطبع وتوزع وتنشر داخل الجزائر وخارجها بسريَّة تامة ولم يردعها رادع، فكان النضال بالقلم وآلات التصوير مرافقا للكفاح بالسلاح.
العشرية السوداء.. الفترة الأصعب في تاريخ الصحافة
استهدف المسلحون خلال العشرية السوداء، التي عرفتها الجزائر مطلع التسعينيات من القرن الماضي، الصحفيين من كافة القطاعات، سواء المكتوبة أو المسموعة أو السمعية البصرية، فكان يكفي أن تكون صحفيا حتى تُصبح هدفا للمجموعات المسلحة، وهو ما يؤكد اغتيال أزيد من 100 صحفي وصحفية خلال تلك الحقبة السوداء من تاريخ الجزائر.
عاش الصحفيون الجزائريون سنوات صعبة، فبين سندان المهمة النبيلة ومطرقة الإرهاب الذي جعل هذه المهنة ذنبا يُقتل بسببه مزاولها، وجدوا أنفسهم يمارسون مهنتهم دون حماية، وهذا ما دفع الكثير منهم إلى مغادرة مساكنهم وأهاليهم، ومنهم من غادر الوطن.
وبالعودة لتلك الفترة، كانت للمصور الصحفي مكانة أساسية في الجرائد اليومية، فكان عمله في الميدان تحديا لكونه – وبدون سابق تحضير – وجد نفسه يُغطي أحداثا صعبة يصل إلى أماكن حدوثها قبل سيارات الإسعاف والشرطة أحيانا.
ومع تزايد قتل الصحفيين، قررت الدولة الجزائرية آنذاك نقلهم للسكن في محميات أمنية، ما جعل أكثر من 1000 من الصحفيين الجزائريين يخرجون من بيوتهم ومساكنهم ويفارقون عائلاتهم، وتجرعوا خلالها مرارة الخوف والرعب، جراء التهديد بالاغتيال الذي تلقوه. وقد تحول هؤلاء مع مرور الوقت إلى نزلاء في فنادق محروسة حددتها لهم الدولة في العاصمة الجزائرية وضواحيها.
وذكرت الإحصائيات أن الصحفيين الذين قضوا خلال تلك الفترة انقسموا على الشكل التالي: 42 في المائة منهم يكتبون باللغة الفرنسية، و36 في المائة يكتبون باللغة العربية. أما مزدوجو اللغة فيشكلون نسبة 18 في المائة، ونسبة 3 في المائة منهم بلغة الصم والبكم. أما نوع الانتماء السياسي والإيديولوجي، فهو على النحو التالي: 6 في المائة اتجاه إسلامي، 18 في المائة اتجاه يساري، 30 في المائة اتجاه ليبيرالي، 45 في المائة انتماءات أخرى غير معلنة.
رحلة تصفية حاملي القلم والكلمة
في 2 جوان 1993، انطلقت الرصاصات الأولى في رحلة تصفية الكتاب والصحفيين، والتي لم يتوقع قبلها أحد أن يكون حامل القلم والكلمة مستهدفا لهذا الصراع، فكان الصحفي والروائي الطاهر جاووت أول كاتب يسقط صريعاً بالرصاص، وكان يشغل آنذاك منصب مدير تحرير أسبوعية “ربتوري” الصادرة بالفرنسية، والذي تحمل دار الصحافة بالجزائر العاصمة اسمه حاليّاً. وقد اغتيل جاووت بينما كان يغادر مسكنه، في حي باينام غرب الجزائر العاصمة. وشكل اغتياله صدمة للبلد، فقد كانت كتاباته تنويرية ولاذعة ومنتقدة للسلطة وللإسلاميين في الوقت نفسه. ومن عباراته التي اشتهرت: “إذا صمتَّ فإنك ستموت، وإذا تكلمتَ ستموت، إذن، قُلْ كلمتك ومُتْ”.
ومنذ ذلك التاريخ انطلقت موجة طويلة من قتل الصحفيين وعمال ميدان الصحافة مهما كانت لغة كتابتهم أو منصبهم أو نوع المؤسسة التي يشتغلون بها، فسقط أكثر من مائة وخمسين ضحية من الإعلاميين والكتاب والروائيين في الجزائر العاصمة وولايات أخرى، جعلت الشعب يدرك أن الكل مُهدد بالقتل.
وبعد اغتيال طاهر جاووت بحوالي شهرين بالضبط في أوت 1993، اغتالت آلة الإجرام الصحفي العامل في التلفزيون رابح زناتي. وبعده يوم 18 أكتوبر 1993، اغتيل الصحفي إسماعيل يفصح، صحافي أخبار الثامنة في التلفزيون وفي الشهر نفسه اغتيل مصطفى عبادة رئيس التلفزيون الجزائري. واغتيل بعدهم يوسف سبتي، وجيلالي اليابس، ومحمد بوخبزة، عبد الوهاب بن بولعيد، وعبد الحق بن حمودة، وعمار قندوزي، وعبد القادر حمودة، وغيرهم كثيرون من أبناء النخبة وحاملي الكلمة.
هذا الواقع الصعب جعل العاملين في مهنة الصحافة يضطرون إلى الهجرة، وتشير التقديرات إلى هجرة أكثر من 150 صحفياً وصحفيةً، والتحاقهم بقنوات وإذاعات أجنبية في باريس ولندن ودول المشرق والخليج.
ل. ب