جاءت فكرة الاحتفاء باليوم الدولي للغة الأم بمبادرة من بنغلاديش، وأقرّها المؤتمر العام لليونسكو عام 1999 ليبدأ العالم أجمع الاحتفاء بهذا اليوم اعتباراً من عام 2000. هذا، وسيُقام اليوم الدولي الرابع والعشرون للغة الأم تحت شعار “التعليم المتعدد اللغات – ضرورة لتحقيق التحول المنشود في التعليم”.
ويأتي الإحتفال هذه السنة في وقت تتفاقم فيه الأخطار المحدقة بالتنوع اللغوي، فاللغة وسيلة جوهرية للتواصل بكافة أنواعه، والتواصل هو ما يجعل التغيير والتطور ممكنا في المجتمع البشري. فاستخدام أو عدم استخدام لغة معينة كفيل بفتح أو بسدّ الأبواب أمام شرائح واسعة من المجتمع.
ويقصد باللغة الأم، تلك اللغة التي رضعها الطفل من ثدي أمه، ونسج بها كلماته وجمله الأولى التي نطق بها لأول مرة، واستعملها في صباه داخل البيئة التي يعيش فيها بكل مكوناتها الثقافية والحضارية، بل إن اللغة الأم هي الهوية والكينونة.
كيف تتلاشى اللغة الأم؟
في تعريف “اللغة الأم”، تصبح لغة أفراد الأسرة التي يتحدثون بها داخل المنزل هي اللغة الأم للطفل، وتأتي بعدها أي لغة يتقنها سواء تعلمها من المدرسة أو بأي وسيلة أخرى، غير أن الأزمة التي تواجه الأمهات المغتربات حينما تصبح اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية هي لغة الطفل الأولى، ربما يفهم حديث والدته باللغة الأم، لكنه يفضل التفاعل والاستجابة باللغة الأجنبية، فتصبح المهمة مضاعفة، إذ كيف تقنع الصغير الذي دفعته لتعلم اللغة الأجنبية أمس، أن يتعلم لغته الأم اليوم.
تعليم الأبناء اللغة العربية.. حلم الأمهات في الغربة
تواجه العديد من الأسر المغتربة أزمة رفض الأبناء تعلم اللغة العربية، ومعروف أنه وفور انتقال الأسر المهاجرة إلى دول أجنبية ومحاولة الاندماج في المجتمعات الجديدة، فإن أول من يذوب في وسطها هم الأطفال، وسرعان ما يتقنون اللغة أسرع من الآباء، ربما يشعر الأبوان بالفخر في البداية أن أطفالهم أجادوا اللغة كأهل البلاد في غضون سنوات قليلة وربما شهور.
غير أن أزمة جديدة تفاجئ الأسر في ذلك الحين، كيف اختفت اللغة العربية من لسان الأطفال، بل أصبحت حملا عليهم، لا يحبذون التحدث بها ولا يطيقون تعلمها، هنا تبدأ رحلة الأمهات المغتربات في البحث عن وسيلة لتعليمهم اللغة العربية.
وفي هذا السياق، قالت خولة إنه حينما انتقلت إلى لندن قبل ثلاث سنوات، لم يكن ابني الصغير يفهم اللغة الإنجليزية ولا يتحدث بها، حتى أنني واجهت صعوبات كثيرة في بداية التحاقه بالمدارس الحكومية، وكثفت جهدي وقتها لتعليمه كلمات أساسية من اللغة لتساعده في التعبير عن أهم احتياجاته في يومه الدراسي، ولكن بعد سنوات قليلة انقلب الحال، وأصبح علي مواجهة المشكلة نفسها، ولكن مع اللغة العربية هذه المرة.
وبعد كثير من البحث عن مدارس تعليم اللغة العربية في لندن، كانت المدرسة السورية هي إحدى الوسائل التي تلجأ إليها الأسر المغتربة من مختلف الجنسيات العربية، وتعتمد على تقديم برنامجها التعليمي يوم السبت من كل أسبوع، ويقوم بإدارتها معلمون سوريون، ويعتمد المنهج على تكرار النص حتى يقوم الطفل بحفظه، ومن ثم يستطيع ربط ما أتم حفظه بالكلمات أثناء القراءة، لكن وحسب المتحدثة، فإن حفظ الأطفال للنصوص العربية، لا يُعبر عن فهم الطفل للغة، وربما يحتاج الأمر لسنوات حتى يجمع الطفل بين الطلاقة في الحديث باللغة العربية وبين فهم معانيها.
من جهتها، تقول نسيبة -إحدى الأمهات المغتربات- “إن المدرسة السورية قائمة على طريقة في التحصيل تعتمد على التكرار حتى يحفظ الطالب النص، فالمعلمة تقرأ القصة أو النص بصوت مرتفع وواضح بين التلاميذ، وتطلب منهم تكرار ما قالته، حتى يحفظ الطالب القصة في النهاية”.
قد تأتي هذه الطريقة بنتيجة جيدة مع كثير من الأطفال، فكما ترى نسيبة أن المدرسة السورية هي الأفضل والأقدم في لندن وأن منهجها في اللغة العربية هو الأقوى، فإن خولة لا تحبذه لأطفالها، حيث تقدم مهارة الحفظ على الفهم والتفكر.
لكن الملل والضجر يتسللان إلى الأطفال سريعا، ومن ثم يبدؤون في المطالبة بحقهم في الاستمتاع بيوم عطلتهم الأسبوعية الذي يجعل من الأيام الدراسية ستة أيام لا خمسة.
معرفة بلا ممارسة
رغم حرص إيمان على تعليم بناتها اللغة العربية منذ الصغر، وتحديد واجب يومي لهن لإنجازه بعد واجبات المدرسة العادية، فإنها اكتشفت في النهاية أنها مسألة قدرات فردية، ولا يمكن تعميم الأمر بين الجميع، ففي حين تستطيع ابنتها الكبرى التحدث بطلاقة وقراءة اللغة العربية بشكل جيد، لا تستطيع ابنتها الوسطى أن تتحدث أو تقرأ الكلمات العربية.
فعلى مجموعات التواصل بين العائلة عبر واتساب لا يمكن لابنتها أن تفهم ما يقولون رغم أن عمرها قد تجاوز 23 عاما، وما زالت تحتاج إلى تهجئة الحروف في القراءة.
وهذا لا يعني فشل تجربة المدارس العربية عند الآخرين، فأماني حريصة على ذهاب أبنائها يوم الأحد من كل أسبوع إلى المدرسة الفلسطينية، كما تؤكد أهمية دور المنزل إلى جانب المدرسة في ممارسة التحدث باللغة العربية بشكل يومي مع الأبناء.
ورغم تميز ابنة إسراء في المدرسة السورية وتحقيقها نجاحا على مدار تعلمها هناك، فإنها ما زالت تتحدث بالإنجليزية بصورة دائمة في البيت ومع الأصدقاء.
حرص على تعلم اللغة العربية
في حين هناك فئة أخرى من المغتربين لديها أسلوبها أو طريقتها التي تعتمد عليها في حرصها على تعليم أبنائها اللغة العربية، خوفا من أن يفقدها أبناؤهم، فيضيعون إحدى ركائز هويتهم الجزائرية. فهم يغتنمون تواجدهم في أرض الوطن خلال العطلة الصيفية فيسجلون أبناءهم في المدارس الخاصة التي تفتح أقسامها لتعليم اللغات، وفي هذا الصدد، دأبت العديد من المدارس الخاصة، ومنذ سنوات على فتح أقسام لتعليم اللغات، وتضم بعضها أحيانا 12 تلميذا من أبناء المغتربين، حيث أكد مغترب بكندا أن ابنه تعلم بها، اللغة العربية بشكل مرضٍ، جعله يفتخر بها بين أصدقائه في المهجر، ويثير اهتمامهم بتعليم أبنائهم هذه اللغة في الجزائر، خاصة أن مدارس التعليم الرسمي في بعض البلدان الأجنبية، لا تلقي أهمية للغة العربية.
تزايد الطلبات على جمعية العلماء المسلمين.. والإمكانيات لم تسمح
يبدو أن تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم، أصبح رغبة جامحة من طرف المغتربين، وضرورة لتربية أبنائهم والحفاظ على هويتهم الجزائرية، أو خوفا على مستقبلهم من الضياع نتيجة تأثير ثقافات غريبة عنهم، حيث أكد لنا الأستاذ مختار بوناب رئيس لجنة التربية بجمعية العلماء المسلمين، أن الطلبات على تعليم اللغة العربية والقرآن لأبناء مهاجرين جزائريين في الخارج، في تزايد مستمر، ما جعل الجمعية تقترح، برنامجا خاصا بأطفال المغتربين الذين يدخلون أرض الوطن في فصل الصيف، ولكن انعدام الإمكانيات حال دون ذلك.
وقال إن الفكرة لم يتم الاستغناء عنها ولكنها تبقى مطروحة، في انتظار توفر الإمكانيات اللازمة، وتحرك بعض المؤسسات التي سلمت لها الجمعية الملف الخاص بتعليم العربية والقرآن لأبناء المغتربين.
ل.ب