تتباين القناعات والتباينات بين الأجيال المتعاقبة من أبناء المواطنين الفرنسيين من أصول مغاربية، لا سيّما فيما يتعلّق بمكان دفنهم والعودة إلى “الوطن الأصلي”.
فالحنين إلى الوطن الأمّ بالنسبة إلى الجيلَين الأوّلَين من المهاجرين المغاربيين إلى أوروبا، لا سيّما فرنسا، هو الذي لطالما جعلهم يتحيّنون الفرصة لزيارته ولو مرّة سنوياً، فيما يُصرّ الكثيرون منهم على العودة النهائية بعد وفاتهم فيُدفنون قريباً من آبائهم وأجدادهم، وفي هذا السياق يحكي الحاج علاوة، وهو جزائري يقترب من الثمانين من عمره، كيف أنّه بذل “جهوداً كبيرة لإعادة جثمان والدي من بلجيكا”. يضيف: “قصدت فرنسا للعمل في ستينيات القرن الماضي، وكذلك للبحث عن والدي الذي هجرنا. وفي أثناء بحثي، تبيّن لي أنّه ميت ومدفون في إحدى مقابر بلجيكا. فذهبت إلى هناك وخُضت صراعات مع السلطات البلجيكية المعنية التي كانت ترفض نبش القبر. في النهاية، نجحت في مهمّتي وحملت رفات والدي وعدت به إلى الجزائر ودفنته في منطقة القبائل”. بالنسبة إلى الحاج علاوة، فإنّ ذلك هو “أهمّ إنجاز في حياتي. صحيح أنّه هجرنا في نزوة، لكنّه ظلّ أبي ولا بدّ من أن يُدفن إلى جوار ذويه”.
أبناء الهجرة الرابعة بُعد روحي عن الوطن
ومع تغير الظروف والذهنيات واختلاف الهموم الحالية عن هموم الزمن الذي سبق، حتى التعلّق بأرض الأجداد أمر لم يعدّ يمسّ كثيراً مشاعر مَن وُلد وترعرع في الغربة ولا يعرف أرض الأجداد، أو هو يعرفها فقط من خلال بضعة أيام قضاها هناك، مجبراً في أحيان كثيرة. فأبناء الهجرة الثالثة والرابعة لا يوافقون تلقائياً على مرافقة آبائهم إلى الوطن الأصلي، ويختارون وجهات مختلفة لقضاء عطلهم، وهؤلاء الأبناء الذين يرفضون حتى مرافقة آبائهم في عطلة الصيف، كيف يُتوقَّع منهم أن يطالبوا بدفنهم في أرض لا يعرفونها؟
حملات لإعادة جثامين المسلمين لبلدهم
تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة إجراءات ما زالت معتمدة في مساجد ومراكز إسلامية في فرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية في هذا السياق، إذ تُنظّم حملات تبرّع لجمع تكاليف إعادة جثمان ما إلى أرض الوطن. كذلك، وبهدف إيجاد حلّ للمهاجرين الذين يصرّون على أن يُدفنوا في وطنهم الأمّ، خصوصاً الذين يقيمون في الغربة لوحدهم، كانت تأمينات الكفن. فيسدّد المهاجر في أحد مصارف بلده، المغرب أو الجزائر أو تونس، اشتراكاً شهرياً، وعند وفاته تكون عودته إلى الوطن مؤمّنة مع واحد من أفراد أسرته ليُدفَن هناك.
ويقول الحاج محمد العمراني، وهو في أوائل السبعينيات من عمره، الذي لا يخفي أنّه أمّن مع عائلته نقله إلى الوطن الأمّ عند موته، بأنّه أصيب بصدمة قبل أيام حين مات ابنه الأكبر فجأة. فقد قرّر الإخوة عدم نقَله إلى بلدهم. يضيف أنّ “الصدمة كانت كبيرة، لا سيّما أنّ ثمّة من كان يستعدّ لاستقباله في الوطن. أبنائي رفضوا الأمر لأنّ بلدهم هو فرنسا ويريدون البقاء قريبين من قبره لزيارته”. على الرغم من ذلك، فإنّ الحاج محمد العمراني مصرّ على أن يُدفن إلى جوار والدته التي توفيت قبل سبعة أعوام.
بين شرعية الدفن في الوطن وحق الدفن في فرنسا
والإقدام على خطوة مماثلة ليس أمراً سهلاً، والحاج محمد العمراني وكثيرون في مثل حاله يشعرون بالإرباك ويتساءلون عن شرعية الدفن في فرنسا. ولأنّ ثمّة تناحر يُسجَّل في فرنسا بين تيارات مختلفة في الإسلام، فإنّهم لا يحصلون على جواب واحد شافٍ في معظم القضايا المتعلّقة بالإسلام، لا سيّما الدفن. بالنسبة إلى بعض أئمّة المساجد، فإنّ توفّر شركات لنقل الموتى بالإضافة إلى تأمين المصاريف أمران كافيان لإقناع عائلة الميت بنقل جثمانه إلى الوطن الأمّ، لكن في حال كانت أوضاعه المادية متأزمة واستحال تأمين نقله، فلا بأس بدفنه حيث هو. وفي مقابل هؤلاء، ثمّة أئمة مساجد لا يجدون حرجاً في ذلك، بل يشجعون على الدفن في فرنسا. ويقول الشيخ أحمد، من مسجد روني – سو – بوا في ضواحي باريس إنّ “في فرنسا، والحمد لله، ثمّة مساحات مخصّصة للمسلمين في المقابر. صحيح أنّها قليلة، لكنّ المسؤولية تقع على عاتقنا في هذا الإطار”. يضيف أنّ “ثمّة فرصة أمام الجالية الإسلامية في فرنسا للعمل على بناء مقابرها الخاصة. لا يعقل أن يكون الوجود الإسلامي في فرنسا منذ القدم فيما نحن في حاجة إلى أماكن للعبادة ومقابر إسلامية”. ويتابع الشيخ أحمد أنّ “الأمر يربك المسلمين، لذا قرّرت من خلال الدروس التي أقدّمها تشجيع المسلمين على تجاوز إرباكهم ودفن موتاهم في فرنسا”، لافتاً إلى أنّ “عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين دُفنوا في الأماكن حيث توفوا، على الرغم من أنّه لا وجود إسلامياً فيها”.
ق.م