الفراشة الاخيرة.. من سلسلة الدرر الثمينة

الفراشة الاخيرة.. من سلسلة الدرر الثمينة

تراني دائما أقود دراجتي الهوائية السوداء هروبا من ضجيج المدينة و صخب دواليبها و ضوضاء الحركة التي تعج بطرقها فتكتم أنفاسنا بصوت المحركات المرعب و ادخنتها السامة و تنقص من دورة حياتنا و تطفا شموعنا يوما بعد يوم،.

وذات مساء دافئ دفئ شهر ابريل كانت وجهتي متنزها صغيرا على أطراف المدينة ،قصدته طلبا للاسترخاء و الراحة و التخلص من روتين العمل و مشاغل الحياة، جلست بجانبي و استبقتني آخذة مكانا لها على جنبات كرسي صنع من خشب الخيزران كان بريقه يعبث بومضات ما بقي من أشعة باهتة لشمس تهم بالغروب و تأخذ من أفق سماء مدينتي ملاذا و موطنا لتنام و تخلد للراحة.

كانت تسترق النظر إلى مقلتي المتعبتين بكل أدب و عناد تارة ، وتمحص في تفاصيل وجنتي و أهداب عيوني و تغوص في صفحات حياتي المتشعبة تارة أخرى ،خلتها صاحبة قارئة الفنجان أو قارئة لغة العيون والمحبين.

كانت تلوح بتعابير لزميلاتها اللواتي ألفنها و ألفن تفاصيل حياتها،فمصيرهن سواء .

كانت آية ربانية في الجمال و عنوانا من الرونق المرسوم بالوشم و المطرز بخيط الذهب ،تسحر الناظر و تشدو بالعقل المحب للحسن و الابداع، رداءها الربيعي الفاتحة ألوانه يسبي العقول و اقفال معطفها القرمزي حلة من الدرر وأحجار الماس الكريمة ، وشاحها الوردي عبق مختم و منمق بابهى الحلل و النياشين، وقبعتها الربيعية البيضاء الخفيفة كأنها تحفة مهربة من خزاين ملكات بريطانيا أو اميرات بلاد الغال.

كانت جميلة دون مساحيق أو بودرة ،فشغلت بالي و اوقفت محرك التفكير في مخيلتي برهة من الزمن بتناغم ألوانها وحركتها الخجولة الأنيقة ، نظراتها البريئة كانت تبوح باحاسيس حزينة عششت على مدخنتها القديمة طيور اللقلق و غزت اقدارها المترامية غربان حمقاء لا تعرف من الفنون إلا اكل الجيفة و عزف سيمفونية مرعبة و نوتات مخيفة ،و كأنه مشهد في فيلم الفريد هيتشكوك العقدة النفسية.

كانت تقلب صفحاتها من زمن جميل مضى، أو موسم يلملم جراحه وأوراقه بنبرة ياءسة، أو كارملة تكفكف دموع صغيرها ،أو كمسافر يجمع حقاءبه على مضض أمام شباك التذاكر ليركب القطار السريع و يغادر على عجل.

لقد شدني أكثر و نخر قواي شعورها البائس بؤس اصفرار أوراق الشجر ، و شح السحاب لأرض مدينتي عن المطر، و لوعة فراق حبيب مل الليل و عشق السهر،أو لقاء مجنون ليلى قبل أن يخون و يغير محطة السفر، و يضرب بخنجره المسموم أسفل الظهر.كان السكون يجثم على أطراف المكان و يرفع من اوتار حزنها و شغفها بحياتها و طفولتها و مراحل تطورها و دنو أجلها،لقد رسمت أجمل اللوحات ، و نافست بيكاسو ز دولاكروا و دينيه ، فالانطباعية مدرستها والغريب الخارق ريشتها، و ألوان الطيف روحها و اوكسوجينها الذي تتنفسه .، وجملت الحدائق و الدروب و سلبت عقول أزهار الاقحوان و مسك الليل ، فكانت ملهمة الفنانين و الرسامين وقاهرة الشعراء و المبدعين و سيدة الركح بلا منازع.

استنطقتها بعدعناء و طول انتظار ،ما اسمك ايتها الحلوة؟ فردت ،انا اخر كومبرس في مسرحية فصل الربيع ، فصل الجمال و الخصوبة والزهور و الابداع، انا اصلي شرنقة بيضاء شريفة قدري محتوم و عمري يعد على الاصابع، ارسم الجمال و اكتب باقلامي ان للرونق عنوان ،دون عمولة أو اثمان، فهلا تفكرتني أيها الطيب الإنسان و شكرتني يا ولهان، لم أجد من يودعني و يجبر بخاطري و يثني علي بشكر ، فالمال و الجاه اخذته الورود و العسل ،و لم يكتب اسمي على افيشات الفيلم أو المسرحية ، كبار المنتجين و صناع الافلام أكلوا الأخضر و اليابس و نسب لهم النجاح وافرشت لهم أرض مدينة كان الفرنسية الساحرة أو هوليود السجاد الأحمر الملكي.

بكيت لحالها ، و قلت لها:انت يا سيدة خشبة المسرح و السينما ، و أيقونة فصل الربيع، احترامي لك سيكون بحجم الكون ،لكن لا أعرف متى يكون عزاءك، و مراسم جنازتك افي المسجد ام في الكنيسة ام في المعبد………..

تنهمر دموعي طواعية دون سابق إنذار و انا اواسي محنتها و كان طارقا لباب حياتها يأمرها بالانصراف و ترك المكان ،هناك عند شجرة الميموزا زميلاتها تنتظرن ، فاعتذرت المسكينة الحائرة مني بكل احتشام و علت ألوانها سماء الحديقة الحزينة و ركبت عربة قطار الحياة دون رجعة ،و رفرفت روحها الطاهرة على الكرسي و الشجر و المدينة، و حز في نفسي فراقها ومسحت دموعي بروية و شجون، و اصطحبت دراجتي و غادرت المكان .

شريط نبيل