تعالت أصوات داخل مختلف قطاعات العمل العمومية أو الخاصة خلال السنوات الأخيرة، بهدف إيلاء أهمية قصوى لطب العمل نظرا لخصوصيته “الشديدة”، إلى جانب الاعتراف بالأمراض المزمنة كالأمراض المهنية “النفسية” مثل الانهيار العصبي والوسواس والتعب والإرهاق والأرق والهذيان وفقدان الذاكرة والجنون وكذا الأمراض الجسمانية الأخرى كأمراض القلب والضغط الدموي والحبال الصوتية والحساسية وغيرها من الأمراض
التي باتت الشغل الشاغل للعمال.
ومن بين القطاعات المتضرر عمالها من ظروف العمل النفسية قبل الجسدية، عمال قطاع التربية الذين عانوا ويعانون الأمرين حتى بلوغهم سن التقاعد، و أكد في هذا السياق مزيان مريان رئيس النقابة الوطنية للتعليم الثانوي و التقني “سنابست” في تصريح لـ “الموعد اليومي” بأن ملف طب العمل قديم جديد يعود إلى فترة وزير التربية الأسبق أبو بكر بن بوزيد، حيث لم يتم معالجته بالرغم من النداءات والمناشدات واللقاءات الدورية التي عقدت مع وزارة التربية الوطنية التي لم تتجاوب مع هذا الملف على أكمل وجه.
وأوضح مزيان مريان بأن الدليل على عدم اهتمام وزارة التربية الوطنية بملف طب العمل هو قلة مراكز طب العمل في عديد الولايات، و ضعف الخدمات الصحية التي تقدم للأساتذة والمعلمين في غياب تام للإمكانيات المادية والمعنوية التي من شأنها إعطاء دفعا للجانب الصحي لهذه الشريحة المهمة في المجتمع.
كما أوضح مزيان مريان بأنه لا توجد إرادة من طرف السلطات العمومية لمعالجة ملف طب العمل كما ينبغي، خاصة وأن هذه السلطات تحتم على الأساتذة والمعلمين الذهاب إلى المراكز الاستشفائية والمستشفيات العامة للتداوي بالرغم من المشاكل التي توجد في هذه الفضاءات الصحية أقلها الاكتظاظ.
التعليم.. ظروف صعبة ومخاطر بالجملة
وشدد مزيان مريان على أن الكثير من الناس لا تعرف بأن مهنة التعليم فيها مخاطر جمة نظرا للظروف الصعبة المحيطة بالأساتذة والمعلمين على غرار “الاكتظاظ” و”عقلية” تلميذ اليوم المزاجية مقارنة بتلميذ الأمس، ناهيك عن أن المعلم في حد ذاته أصبح يتعامل مع “القلق” بشكل يومي وأصبح عقله منشغلا بشكل كبير عند الذهاب والعودة من المدرسة التي أرقته كثيرا.
القلق يسبّب أمراضا نفسية للأستاذ
وأضاف مريان بأن هذا القلق سبّب كثيرا من الأمراض النفسية والجسدية للأستاذ “المغلوب على أمره”، بدليل أن المتأمل في الوصفات الطبية التي تقدم له أصبحت تخيف بالنظر إلى عدد الأمراض التي تصيبه والدواء الذي يعطى له.
ونبه مزيان مريان إلى أن ذهاب الأساتذة والمعلمين نحو التقاعد المسبق بكثرة هو مؤشر على أن ظروف العمل في قطاع التربية ومهنة التعليم أصبحت لا تطاق، حيث أصبح المعلم اليوم يفكر في صحته أكثر مما يفكر في مواصلة مسيرته المهنية التي تعترضها الكثير من الصعوبات.
كما نبه مريان إلى أن الكثير من الأمراض المهنية غير معترف بها في قطاع التربية، ما عدا مرض الحنجرة، في حين تبقى الأمراض الأخرى مسكوتا عنها ولا توجد إرادة حقيقية لحصرها في ظل نقص المراكز الطبية عبر مختلف ولايات الوطن.
نوعية العمل وحجمه سبّبا أمراضا نفسية “كارثية” لعمال قطاع الصحة
وبالحديث عن قطاع التربية والتعليم الذي يعاني موظفوه وعماله من أمراض عديدة أثرت على تركيبتهم النفسية مع مرور السنوات، قطاع الصحة هو الآخر يعاني عماله وموظفوه معاناة نفسية شديدة جراء سنوات الخدمة التي أدوها خاصة في سنوات العشرية السوداء التي ما تزال تبعاتها النفسية تلاحقهم إلى اليوم.
ويؤكد الياس مرابط رئيس النقابة الوطنية لممارسي الصحة العمومية لـ “الموعد اليومي” بأن موظفي قطاع الصحة بالجزائر الأكثر تضررا من الضغوطات النفسية أثناء تأدية واجباتهم المهنية اليومية جراء تزايد حدة التوترات العصبية معطيا مثالا حيا على (سبيل الذكر لا الحصر) بعمال وموظفي قسم الاستعجالات الطبية الذين يعملون تحت ضغوطات نفسية وجسدية رهيبة باستمرار.
وأوضح مرابط بأنه في الدول المتقدمة عمال وموظفو قسم الاستعجالات يشتغلون مدة سنتين من العمل، ثم سرعان ما يوجهون للعمل في أقسام طبية أخرى، أما في الجزائر فعمال قسم الاستعجالات يشتغلون إلى حد خروجهم من التقاعد، ما يجعل صحتهم النفسية والجسدية صعبة أثناء انتهاء فترة عملهم، وهي من جملة الأمراض غير المدرجة في طب العمل.
كما أوضح المتحدث بأن ضغط العمل ونوعيته وحجمه هي عوامل أساسية أثرت على نفسية ممارسي الصحة العمومية، حتى أصبحت الأخطاء الطبية تقع من حين لآخر وما ينجر عنها من تعقيدات تصل إلى معاقبة الطبيب وحتى دخوله في مشاكل مع العدالة وذلك كله بسبب الضغوط النفسية.
وضرب المتحدث في السياق ذاته أمثلة أخرى للجراحين الذين يشتكون من الضغوط النفسية اليومية جراء وقوفهم اليومي لساعات طويلة لأجل إجراء العمليات المعقدة، حيث أكد بأن هذه الظروف نتج عنها شكاوى عديدة لهؤلاء الأطباء الذين أصبحوا يعانون من مشاكل على مستوى العمود الفقري شأنهم شأن المخبريين وجراحي الأسنان…
ونبّه المتحدث إلى أنه لا توجد إلا الأمراض المتنقلة “الالتهاب الكبدي” المعترف به بين العمال والموظفين في قطاع الصحة، بسبب عدم تحيين قائمة الأمراض المهنية التي تخص عمال الصحة خاصة الذين لهم علاقة مباشرة بالمريض.
سليماني: يجب ايلاء أهمية بالغة للمتابعات النفسية داخل المؤسسات
من جهتها، قالت الدكتورة سليماني جميلة المختصة في علم النفس الاجتماعي في تصريح لـ”الموعد اليومي”، بأن العامل أو الموظف الجزائري بشكل عام يعاني ضغوطات نفسية رهيبة أثناء العمل، خاصة مع الروتين اليومي الذي يميزه بسبب عدم استغلاله العطل الأسبوعية على أكمل وجه، وبالتالي أصبحت الأمراض النفسية ينظر إليها على أنها بمثابة وصمة عار لا يتحدث عنها رغم أن الأمر عادي جدا ويجب معالجته بالطرق العلاجية المتاحة.
ونبهت سليماني جميلة إلى أن الأمراض الجسدية التي تظهر في الكثير من الحالات، ويكون منشأها الأصلي أمراض نفسية بامتياز في الغالب تعود إلى ضغوطات يمارسها رب العمل على مستخدميه، محذرة من خطورة مرض لا يلقي له عامة الناس بال، ويتعلق الأمر بمرض يطلق عليه اسم “متلازمة المدني المريضة” الذي يظهر في الأماكن المغلقة خاصة مع الذين يعملون في الإدارة، وأهم علاماته القيء وصداع في الرأس وفي العين وقد يكون له تبعات وخيمة على صحة الإنسان على المدى المتوسط والبعيد.
اقترحت المختصة في السياق ذاته ضرورة ايلاء أهمية قصوى للجانب النفسي داخل المؤسسات، من خلال العمل على تفعيل المتابعات النفسية للعمال وليس المتابعات الجسدية كي نتجنب على الأقل السكتات القلبية التي تحدث أغلبها جراء تراكمات نفسية متلاحقة دون أن يدري العامل أو الموظف ذلك.