المدينة الوحيدة التي حافظت على شكلها بإفريقيا, “تيمقاد”.. درة آثار الحضارة الرومانية في الجزائر

المدينة الوحيدة التي حافظت على شكلها بإفريقيا, “تيمقاد”.. درة آثار الحضارة الرومانية في الجزائر

إذا كنت من عشاق التاريخ وذكرياته، المواقع الأثرية ومعالمها وتصميماتها، وإذا كنت ممن يهوون مشاهدة فنون الحضارة الرومانية، فأنت على موعد مع واحدة من أجمل مدن الرومان في إفريقيا والتي سترى فيها آثاراً شاهدة على روعة الفن المعماري الروماني ودقة تنسيقه، هي مدينة تيمقاد الجزائرية التي وصفها تقرير اليونيسكو بالمستعمرة الرومانية القوية والمزدهرة.

تعتبر مدينة تيمقاد الأثرية الواقعة في ولاية باتنة شرق العاصمة الجزائرية متحفا في الهواء الطلق، فهي مدينة أثرية رومانية شاهدة على عصور غابرة، والوحيدة التي بقيت شامخة صامدة في إفريقيا، رغم مرور الزمن ورغم الإهمال، وقد اشتق اسم تيمقاد العربي والمقصود به أم الرخاء أو أم الهناء من الاسم اللاتيني “تاموقادي” وصنفت سنة 1982 كواحدة من المدن التراثية العالمية من قبل منظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة.

 

من حصن عسكري إلى مركز حضاري

تقع مدينة تيمقاد الأثرية على بعد 36 كيلومترا شرق ولاية باتنة، و418 كيلومترا شرق الجزائر العاصمة، بناها الرومان في سنة 100 ميلادية في عهد الإمبراطور تراجان لأغراض عسكرية ودفاعية، ولكنها ما لبثت أن تحولت فيما بعد إلى مركز حضاري وتاريخي.

 

الحضارة على مر الزمن

يرجع أصل اسم مدينة باتنة إلى لفظ “بتنه” الذي كان يقصد به الـ “مبيت” وخلال فترة الاستعمار الفرنسي، وبالتحديد سنة 1848 قررت السلطات الاستعمارية تسميتها بـ”لومباز الجديدة” لكن سرعان ما تمت العودة إلى التسمية الأولى بعد حوالي سنة من تغييرها، وحافظت المدينة على الاسم بعد استقلال الجزائر سنة 1962.

ورثت منطقة باتنة تاريخا حضاريا عريقا، حيث تعاقبت عليها عدة حضارات، بداية بالحضارة النوميدية التي ما زالت آثارها ماثلة للعيان، خاصة على مستوى منطقة إشوكان وقرية بالول، المعروفة بحصنها الشهير الواقع في دائرة منعة، وكذا ضريح إمدغسن في دائرة المعذر، قبل أن تتعرض إلى غزو روماني نجح في السيطرة عليها، بعد حروب طاحنة مع النوميديين سنة 42 بعد الميلاد.

وشهدت المدينة في عهد الرومان ازدهارا عمرانيا، فتم تشييد عدة مدن مثل لومبازيس سنة 81 بعد الميلاد، وثاموقادي المعروفة بتيمقاد حاليا، وديانة المعروفة بزانة حاليا سنة 100 بعد الميلاد، وتواصلت سيطرة الرومان على المنطقة حتى القرن الرابع بعد الميلاد، حيث احتلها الونداليون سنة 431 بعد الميلاد، إلى غاية 534 بعد الميلاد، ثم قدم إليها البيزنطيون.

بعد ذلك جاءت الفتوحات الإسلامية، وتم فتح المنطقة على يد عقبة بن نافع سنة 669 ثم جاء الأتراك سنة 1585 وخضعت المنطقة إلى حكم باي قسنطينة، واستمرت السيطرة العثمانية عليها، حتى جاء الغزو الفرنسي، الذي وصل إليها سنة 1844 وبعد السيطرة عليها، قررت السلطات الفرنسية اخضاعها إلى نظام عسكري بسبب موقعها العسكري الاستراتيجي.

 

اكتشاف مذهل

ذهل المستكشف الاسكتلندي جيمس بروس سنة 1765 عندما اكتشف آثارا رومانية مدفونة في الرمال، مثل قوس نصر روماني على أبواب الصحراء الجزائرية، دون أن يدرك أن مدينة رومانية كاملة مدفونة تحت الرمال، ولكن لم يتم الكشف عن آثار المدينة حتى عام 1881 عندما قام علماء آثار فرنسيون بالتنقيب عن باقي آثار المدينة، وتم الكشف عن الكثير من الأبنية، وتبين أن سكان المدينة كانوا يعيشون في رخاء، وأن الآثار التي تم العثور عليها تشير إلى نمط معيشي يغلب عليه الرفاه، إذ اختار الرومان بناء هذه المدينة على بوابة الصحراء الجزائرية.

وتمكن الرومان من بسط سلطتهم على منطقة شمال إفريقيا في القرن الأول قبل الميلاد، رغم المقاومة الشرسة التي أبدتها بعض القبائل البدوية، ورغم ذلك لم يأمن الرومان على أنفسهم، فقاموا بتشييد العديد من المعسكرات المحصنة ومراصد الحراسة في المنطقة الجبلية شمال الجزائر، ثم اختاروا بناء مدينة تيمقاد، التي قالوا إن الهدف من بنائها هو إيواء الجنود المتقاعدين، لكن الحياة الرغيدة التي كان ينعم بها سكان المدينة من الرومانيين، استساغها سكان المناطق المجاورة الذين كانوا يقصدون المدينة من أجل بيع وشراء السلع، واستهواهم العيش فيها، لكن السلطات الرومانية كانت تمنع الإقامة فيها على غير الحاصلين على الجنسية الرومانية، الأمر الذي جعل الكثير من سكان المناطق المجاورة يتطوعون للخدمة في الجيش الروماني من أجل الحصول على الجنسية للإقامة في تيمقاد، وكانت الخطة تهدف إلى استمالة سكان المنطقة الأصليين، وتحييدهم ومنعهم من مقاومة الوجود الروماني.

وعمل الرومان على المساواة بين جميع المواطنين، حيث قسمت الأراضي بالتساوي بين قدماء الجنود الرومان والسكان الأصليين، وشيدت بيوت بالمساحة نفسها، الأمر الذي استحسنه السكان الأصليون، الذين باتوا شيئا فشيئا يقتنعون بأن الغزو الروماني ليس بذلك السوء، وأن الرومان حملوا إليهم من مظاهر التمدن والمساواة في الحقوق، ما يجعل العودة إلى محاربتهم أمرا مستبعدا.

وذهب الرومان أبعد في استمالة السكان، من خلال تعريفهم بآلهتهم عبر النقوش التي كانت مرسومة على الجدران، وترمز إلى آلهة الرومان ومعتقداتهم، وتم نقش العديد منها على جدران الحمامات التي كانت جزءا أساسيا من يوميات سكان مدينة تيمقاد، وشيئا فشيئا أصبحت هذه الرسوم تنقش في قبور السكان الأصليين ما يعكس تأثرهم بحضارة الرومان وديانتهم.

 

عنوان الجمال والفخامة

ويتسم تصميم الرومان لتيمقاد بالجمال والفخامة، فالمدينة يمر فيها شارعان رئيسيان ينتهي كل منهما بباب ضخم مصنوع من الحجارة الرومانية المنحوتة بأجمل النقوش والرسوم، ويزينه عدد من الأعمدة التي لازالت تحتفظ ببهائها إلى الآن، ويمثل هذان البابان البوابات الرئيسية للمدينة والتي قد تقف عندها في اندهاش وذهول من ضخامتها وجمالها بالإضافة إلى تناسقها.

 

تناسق عمراني يبهر الزائرين

ويمكنك أن تشاهد العديد من الآثار الرومانية الجميلة في هذه المدينة ومنها (الفورم) الساحة العمومية في وسط المدينة، والمعروفة بساعتها الشمسية الضخمة المكونة من خطوط طويلة متعامدة تحدد الوقت بانعكاس أشعة الشمس عليها، ويحيط بالساحة المجلس البلدي ومعبد الإمبراطور وقصر العدالة، بالإضافة إلى السوق العمومي الذي يضم مجموعة من المحال التجارية التي تجد على أبوابها وجدرانها العديد من النقوش التي تؤرخ لها والتي تعتبر شاهدة على نمط معيشة الرومان وحياتهم اليومية.

ولك أن تعلم أن دورات المياه الرومانية كانت واحدة من الأماكن الرئيسية في الحياة اليومية في الإمبراطورية الرومانية، وقد كانت علامة من علامات الحضارة والرفاهية في العهد الروماني القديم، ويمكنك أن تستدل على هذا الأمر من خلال التصميم والتنظيم وكذلك التناسق الهندسي الذي يبدو جلياً في الكثير منها والبالغ عددها 14 دورة مياه.

 

أجمل أقواس الإمبراطورية حاضرة هنا

ولا يفوتك أن تزور “المكتبة العمومية” التي تتكون من ثمانية أرفف، وكانت ثاني مكتبة رومانية في العالم آنذاك، ويمكنك زيارة ما يسمى “قوس تراجان” الذي شيد في القرن الثاني تخليداً لانتصارات تراجان، والذي يعتبر من أجمل الأقواس التي عرفتها الامبراطورية الرومانية. وخلال زيارتك لتيمقاد ستتمكن من مشاهدة “مبنى الكابيتول” المبني على منصة يمكن الوصول إليها عبر درج شيد خصيصاً لهذا الغرض.

 

مهرجان الطرب

أما مسرح المدينة الشهير، فيتسع لأكثر من 3500 متفرج، ويعتبر من أبرز المعالم الأثرية في المدينة، وكان يخصص للعروض الفنية والترفيهية المختلفة، ويستقطب الفنانين من داخل المدينة وخارجها، وقدمت في المسرح عروض شهوانية تناولت مواضيع الفسق والعنف الذي كان يميز حياة الرومان، ورغم مرور قرون من الزمن إلا أن المسرح الروماني في تيمقاد ما زال حتى يومنا هذا يستضيف سنويا مهرجانا للطرب، وقد غنى على مسرحه العديد من الفنانين العرب مثل ماجدة الرومي وكاظم الساهر وغيرهما من رموز الطرب العربي. معبد سريسيوس من أشهر المعابد في تيمقاد، وقد تعرّض للتدمير الجُزئيّ بفعل العوامل الطبيعيّة، وخصوصاً الزلازل التي ضربت المدينة، وقامت السلطات الجزائريّة بترميم المعبد، وإعادة بنائه ليعود إلى شكله السابق.

ويقطع المدينة طريقان رئيسيان وهما المحور الرئيسي الشمالي الجنوبي، والمحور الرئيسي الشرقي الغربي، ولها أربع بوابات رئيسية وهي بوابة الشرق المتوجه نحو مدينة خنشلة، وبوابة سيرتا الشمالية، وبوابة تبسة الجنوبية، وبوابة الغربية نحو مدينة “لامبيز”.

وتوجد في تيمقاد مكتبة تمّ اكتشافها في عام 1906 وعثر فيها على نصوص باللغة اللاتينيّة القديمة، تتناول التاريخ الرومانيّ القديم، وتم أيضا العثور على العديد من الوثائق التاريخيّة، فيما تعرضت مخطوطات أخرى وكتب إلى التلف بسبب عوامل الطبيعة، وتُقدّر الإحصاءات أن المكتبة كانت تحتوي على أكثر من 28000 مخطوط وكتاب.

ويمثل قوس النصر الموجود عند المدخل الجنوبيّ لمدينة تيمقاد واجهةً بالنسبة إليها، إذ كان يستعمل كبوابة كبيرة للمدينة، يتم من خلالها تنظيم حركة السير، سواء تعلق الأمر بالمشاة أو العربات التي تدخل وتخرج من المدينة، وتمت إضافة بعض النقوش إلى القوس في عهد الامبراطور الروماني سيفيروس، وتوجد أيضا “ساعة شمسية” في قلب الميدان المسمى “المنتدى” وقد صنعت في شكل خطوط طويلة متعامدة تحدد الوقت بالاعتماد على انعكاس أشعة الشمس.