أخذت الرقية الشرعية أبعادا مخيفة وخطيرة بالجزائر، حيث لا يتردد ممارسوها في الجمع أثناء نشاطهم بين العنف الجسدي والجنسي، مشكلين خطرا كبيرا على صحة من يلجؤون إليهم.
في ظل التحولات الإقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ما فتئت أن تبعث بإفرازاتها وساهمت بشكل كبير في انتشار ظاهرة الرقية التي انتشرت مؤخرا، ولاقت توافدا محتشدا من قبل جميع الشرائح الاجتماعية بما في ذلك النخبة المثقفة وبهذا أفرغت الممارسة الحقة للرقية من محتواها وأهدافها الرامية إلى شفاء الناس، ليقتحم بعض المشعوذين إطار العمل الإنساني من خلال التلاعب بمصير المريض لنهبه وانتهاك حقوقه تحت راية التداوي والاستشفاء.
فيديوهات توثق الرقية على اليوتوب
في غرفة تشبه حجرات المستشفيات العقلية، يعكف رجل بقميص أبيض، وبلحية مبعثرة، وميكروفون موضوع بعناية أمام كاميرا، على ترديد تعويذات لطرد السحر.. في جانب من هذه الزنزانة المؤثثة بالوسائد، تقوم امرأة مغطاة بالكامل بحركات مرتجلة تحاول مسايرة إيقاع ما يردده الشيخ، وتطلق صرخات حادة وتنطق كلاما غير مفهوم. تحتد المواجهة بينما يواصل الشيخ محاولاته لإقناع “الجن الماسوني” بمغادرة جسد هذه “المسكونة”.
هذا الفيديو المثير للدهشة والسخرية في أن يوجد على اليوتوب، وقد أعده بعناية نعيم ربيع، هذا الداعية المغربي الذي يصف نفسه بكونه “سفير الرقية الشرعية”. ويدعي أنه قادر على علاج “المس” وإبطال السحر والعين بترديد آيات من القرآن أو أدعية خاصة. وتحظى الأشرطة التي يبثها بكثافة على اليوتوب بملايين المشاهدات.
مراكز متخصصة عبر الشبكات الإجتماعية
ويرى الباحث الأنثروبولوجي يونس لوكيل الذي حضر أطروحة للدكتوراه حول الرقية الشرعية:”توجد الرقية لدى الفقهاء والزوايا والأضرحة منذ قرون طويلة، ولكن الرقية الشرعية كظاهرة جديدة، رأت النور مع بروز الفكر السلفي الوهابي، وانتشارها بدأ مع وصول هذا الفكر إلى المغرب العربي في الثمانينيات من القرن الماضي”، ثم يضيف “تمت هيكلة هذه الممارسة الجديدة سريعا من خلال إنشاء مراكز متخصصة وكذا عبر الشبكات الاجتماعية”، وبالفعل فقد حصلت هذه الظاهرة الجديدة على منصات رقمية متطورة للحديث عن كل شيء: السحر وأنواع السرطان والعجز الجنسي… إلخ، ويصادف أصحاب الرقية الشرعية نجاحا كبيرا.
ويكشف عبد الحليم أوتريد، المتخصص في الطب النفسي والعصبي أن شريحة كبيرة من مرضاه جربوا أولا الرقية الشرعية قبل اللجوء إليه، فهم لا يستعينون بالطبيب النفسي سوى كحل أخير، ثم يتابع موضحا أن “هذه الممارسات المشينة، التي تدخل في نطاق الدجل، لها عواقب وخيمة، فهؤلاء الرقاة يستغلون هشاشة المصابين باختلالات نفسية من أجل تدجينهم”.
تعاويذ مربحة جدا
سواء كانوا أغنياء أو فقراء، متعلمين أو أميين، يعتقد زبائن هذا “الطب الغيبي” أنهم “مسكنون” بأرواح شريرة، ويترسخ في أذهانهم أن “الابتهال والدعاء” سيحررهم. “الرقية تبدأ أولا بالتشخيص، لتحديد إن كان المريض مصابا بمس، أو ضحية للسحر أو العين الشريرة، ثم بعد ذلك ينطلق العلاج الذي قد يستغرق عدة حصص”.
مداخيل معتمدة على بيع المنتجات
تقوم هذه التجارة أساسا على بيع المنتجات المتعددة خاصة وأن العديد من الرقاة تحولوا إلى متخصصين في العلاج بالأعشاب، ولا يترددون في وصف خلطات الأعشاب، والأبخرة، وأنواع أخرى من المياه التي يفترض فيها طرد الجن.
وفي رأي يونس لوكيل، فإن هؤلاء الرقاة استطاعوا أن “يؤسسوا خيالا دينيا حول هذه المنتوجات الفرعية التي تساعد، حسب زعمهم، على التخلص من الأرواح الشريرة”، ويضيف موضحا أن “قوة وخطورة الرقية الشرعية تكمن في كونها تستعين بما هو إلهي، ومن يلجأون إليها لا يمكنهم الشك في فعالية كلمة الله ولا في وصفات من يحمل هذه الكلمة”. إذ في أفضل الحالات يصرحون بأنهم تعافوا، وفي أسوئها يتظاهرون بذلك.
ثنائية العنف والجنس
من الممارسات المدانة في الرقية الشرعية هناك العنف الجسدي والجنسي لطرد الجن المزعوم. “إنهم يعتقدون أنه يجب تعذيب الروح الشريرة وبالتالي المريض للحصول على أحسن النتائج الممكنة” يقول يونس لوكيل، وهناك من الرقاة من لا يتردد في استغلال الهشاشة النفسية للمريضات للاعتداء عليهن جنسيا. ويقول لوكيل “سبق لي أن تابعت مشاهد مما يسميه الرقاة “الاشتباك الجسدي، والحدود هنا تبقى هشة جدا بين ما يعتبرونه علاجا وبين الاعتداء واللمس الجنسي”.
أشخاص يعتبرونه علاجا وآخرون دجلا
سعيا منا لنقل الحقائق حول ممارسة الرقية التي انتشرت بحدة مؤخرا، قصدنا عدة مرافق أين يمارس بعض الرقاة نشاطاتهم بكل حرية، فهناك من ينشط عن طريق استئجار محل أو شقة ومن يستعمل جزءا من بيته لاستقبال المرضى والذين يتوافدون من كل أصقاع المعمورة.
العاصمة مثلا تضم الكثيرين ممن وضعوا لأنفسهم حيزا خاصا للقيام بالرقية مقابل مبلغ مالي يحدده الممتهن بحد ذاته وفق اعتباراته الشخصية، غير أن الرقية في الوسط الاجتماعي الجزائري أخذت أشكالا عديدة أفقدتها الكثير من شرعيتها حتى أصبحت مهنة تجارية يمتهنها العام والخاص وكل من يرغب في الكسب السريع، وانبثقت بذلك أوكار جديدة لنشر الدجل والتكهن والسطو على أملاك الغير باسم الرقية الشرعية.
توجهنا رفقة قريبة لنا تعاني من بعض الاضطرابات وبعض الآلام النفسية تنتابها بين الفينة والأخرى، حيث نصحها الجميع بضرورة الذهاب إلى راق، لربما يكون بها مس أو سحر، انتقلت رفقتها إلى عين المكان، استقبلنا الراقي بمنزله وبوجه بشوش أدخلنا إلى قاعة كبيرة أين وجدنا الكثير من النساء والفتيات ثم طلب منا الانتظار لبعض الوقت، اقتربنا من بعض الزبونات لاستطلاع شهادتهن حول هذا الراقي، حيث شهدن له بالنجاعة في شفاء العليل من أمراض السحر والعين وما إلى ذلك حيث صرحت إحداهن بأنها المرة الثالثة التي تأتي فيها وهذا بطلب شخصي منه بحجة متابعة العلاج كل خمسة عشر يوما. كما أضافت أنها مضطرة لدفع مبلغ مالي بقيمة 200 دج في كل مرة وما هي إلا دقائق حتى قدم الراقي وفي يده قارورة بسعة 5 لتر وبدا بتلاوة القرآن بصوت خافت لا يكاد يسمع ثم طلب من إحدى النسوة شرب كل تلك المياه لتقوم بالاستفراغ في وعاء كبير ليقوم بعدها الراقي بتحليل تلك المياه المستفرغة ليكتشف إن كان سحرا أو غيره وتبين لنا في الآخر أنه بلغ أغلب الحاضرات بأن بهن سحر وأمرهن بضرورة متابعة العلاج ليتم الشفاء. جاء دور قريبتي وبعد عملية الاستفراغ تحدث إليها الراقي ليصرح لها بأن بها سحر قديم ويجب أن تتبع زيارتها هذه بعدة جلسات ليتم الشفاء.
كانت قريبتي آخر الحضور وفضولا مني في معرفة نزاهة هذا الأخير طلبت منها أن تعطيه نصف المبلغ فقط أي 100 دج ففعلت لكنني فوجئت برفضه لذلك ثم طلب منها أن تحضر بقية المبلغ في المرة القادمة كما صمم أن تعده بذلك.
فراغ قانوني في عقاب المحتالين بالرقية
كشف المحامي إبراهيم بهلولي عن وجود نقص فادح في قانون العقوبات، حيث قال إنه “لا يوجد أي نص قانوني يعاقب على الرقية الشرعية، والموجود حاليا يتعلق بمواد قانونية تعاقب الشعوذة والمشعوذين أو إنشاء عيادات بطريقة غير قانونية”.
ولم يفرد قانون العقوبات موادا عقابية للمبزنسين بالرقية الشرعية والمتحايلين بها، حيث يقتصر الأمر على مختلف أشكال النصب والاحتيال وكذا الشعوذة وهي أمور قد لا تصب في نفس السياق القانوني مع سابقتها.
وتأسف بهلولي لبلوغ النصب والاحتيال إلى المجال الديني المقدس لدى الجزائريين والتلاعب بعواطف ومقدسات المسلمين.
وأضاف بهلولي أنّ الناس عادة أو الضحايا لا يشتكون لأنهم يذهبون خفية إلى الراقي ويرضخون لكل طلباته والقليل من الضحايا الذين يكشفون ما يتعرضون له من احتيال ونصب ولا يقومون بذلك إلا بعد الآثار الفادحة على صحتهم أو المؤدية إلى الوفاة، بعدها يتحرك ذووهم للتنديد بما حدث لهم.
والمشكل الذي يواجهونه حينذاك هو غياب الأدلة لإثبات الجريمة لأنّها عادة تكون طوعية ودون إجبار، فالشخص يتوجه من تلقاء نفسه إلى الراقي.
واستنكر بهلولي استفحال الظاهرة التي شملت جوانب عديدة، حتى إننا أصبحنا نسمع عن الرقية الإلكترونية والرقية الجماعية والرقية في البيض والزيت والعسل و”الأمصال” والسيروم وغيرها من المنتجات الاستهلاكية والطبية.
مخاطر قاتلة للرقية الشرعية غير الصحيحة
من جهته، حذّر الأمين العام لنقابة الأئمة، حجيمي جلول، من المخاطر القاتلة للرقية الشرعية غير الصحيحة التي تتسبب في وفاة الأشخاص أو إعاقتهم الأبدية.
وقال حجيمي إنّ الرقية علم شرعي يحتاج إلى إنسان عاقل مهتم ومتمكن ينفع الناس ولا يضرهم ويقصد بها وجه الله وخدمة الناس وليس الاغتناء أو الثراء.
وأضاف المتحدث أنّ الرقية في الأمصال مسألة ظهرت في المدة الأخيرة وعرفت انتشارا واسعا وسط بعض الرقاة غير أنّها كثيرة المخاطر لما تسببه من تعقيدات ومضاعفات صحية.
واستطرد حجيمي أنّ “السيروم” مادة طبية معقمة لما تفتح تصبح عرضة للفيروسات التي تنتقل عبر الأوعية الدموية، لذا يجب الحذر جيدا في التعامل معها.
ونهى حجيمي الرقاة عن طلب الأموال الكثيرة نظير ما يقرؤونه من ذكر كتاب الله قائلا: “لا يحق للراقي طلب مبلغ مالي نظير ما قام به ويجب ترك الباب مفتوحا أمام الأفراد لتقديم ما شاؤوا عن طيب خاطر”.
ل. ب