_من_ربوع_بلادي_ طبيعة خلابة وسكان يمتازون بالكرم

باتنة.. موطن الشاوية ومهد الثورة

باتنة.. موطن الشاوية ومهد الثورة

تأسست مدينة باتنة عن طريق المرسوم المؤرخ في 12 سبتمبر 1848 الصادر عن نابليون، وذلك بعد أن قررت اللجنة الاستشارية الكائن مقرها بقسنطينة جعل باتنة مدينة مستقبلية نظرا لموقعها الاستراتيجي على محاور بسكرة، تبسة، سطيف وقسنطينة.

تتموقع ولاية باتنة في قلب الأوراس، وتتميز بتضاريسها الوعرة وبحلة ثلوجها شتاء، والمناظر الخلابة ربيعا وصيفا. يمتاز سكانها بالكرم والجود، ويقطنها “الشاوية” وهم ذوو أصول أمازيغية. أما مدينة باتنة، عاصمة الأوراس ومقر الولاية، تقع على بعد 425 كم جنوب شرق الجزائر العاصمة وترتفع عن سطح البحر بـ 1200 م.

 

موطن الإنسان الأول وشاهدة على تعاقب الحضارات

تؤكد بعض المصادر أن منطقة باتنة كانت من المناطق المأهولة منذ أقدم العصور، فهي كانت ضمن أهم مناطق المملكة النوميدية التي كانت عاصمتها سيرتا. وهناك الكثير من الآثار النوميدية التي تقع بالقرب منها كضريح ايمدغاسن مما يدل على أن إنسان المنطقة عرف تطورا حضاريا كبيرا، وبعد أن استولى الرومان على نوميديا في القرن الأول الميلادي، قام هؤلاء بإنشاء ولأغراض عسكرية وإستراتيجية عدة طرق ومسالك حربية كانت تربط بين سلسلة الحصون الدفاعية التي شيدوها للاحتماء بها حين يهاجمون من قبل الثوار من أبناء نوميديا، والمعروف أن هذه المسالك أو الطرق كانت في القرن الميلادي الأول تمر شمال جبال النمامشة والأوراس وونوغة.

ثم بعد ذلك، أي في القرن الثاني الميلادي خصوصا في عهد الإمبراطورين الرومانيين تراجان وهادريان، تقدمت خطوط الليمس الرومانية شيئا فشيئا وهذا ما أدى إلى ضرورة صيانة هذه المسالك، وقد قام الأباطرة الرومان من بعدهم بتجديدها وتحسينها على مدى فترة ثلاثة قرون، وكانت الفرق الرومانية تستعملها عند الحاجة لحماية حدود المستعمرة من هجمات قبائل الجيتول المتواجدة بالجنوب أو السكان الجبليين الذين ظلوا يهاجمون الحصون الرومانية، فقد تعرضت مدينة تيمقاد للحرق والتخريب عدة مرات. ومن أهم هذه المسالك نذكر طريقا رئيسيا كان ينطلق من إقليم الجريد بالجنوب التونسي ويمر ببسكرة لينقسم بعد ذلك إلى فرعين، أحدهما يمر بالقنطرة وباتنة لينتهي في معسكر لمبازيس- تازولت، حيث كانت ترابط الفرقة الرومانية الثالثة الشهيرة.

أما الطريق الثاني فكان يشق الحضنة لينتهي في عوزية- سور الغزلان وشلالة العذاورة، بعد أن يمر بطبنة ومقرة وقد ظلت هذه المسالك مستعملة لمدة طويلة حتى بعد الفترة الرومانية، حيث داومت القوافل التجارية والعسكرية على عبورها.

 

جبال شيليا والشلعلع بباتنة.. بين سحر الطبيعة وندرة الاستثمار السياحي

لم تحظ اللوحات الطبيعية الجميلة التي تتميز بها ولاية باتنة باهتمام الجهات الوصية، والكلام ينطبق على منطقة الوادي الأبيض وغوفي وجبال شيليا والشلعلع وكوندورسي ومستاوة وغيرها، كما لم يتم استثمارها بالشكل الذي يعود بالإيجاب على الدخل الفردي والمحلي، في الوقت الذي يكمن الإشكال الكبير في ندرة مراكز الإيواء بأبرز المناطق السياحية لباتنة، سواء ما تعلق بالسياحة الجبلية أو التاريخية أو الأثرية.

هذا، وعرفت عديد مرتفعات وجبال عاصمة الأوراس وثبة مهمة في مجال السياحة الجبلية، خاصة في ظل حركية بعض الخواص الذين يوفّرون خدمات مهمة للوافدين على إيقاع جلسات الشواء، مثلما دأب عليه الكثير في جبال شيليا التي أصبحت مقصد محبي الطبيعة والسياحة الجبلية، سواء من باتنة أو بسكرة أو خنشلة ومختلف ولايات الوطن، والكلام نفسه ينطبق على مرتفعات جبال الشلعلع ومستاوة وكوندورسي التي تتمتع بتقاليد مهمة في هذا الجانب، بناء على الخدمات المقدّمة للأفراد والعائلات، ما جعل الكثير يشيد بهذه الجهود، رغم اعترافهم بضرورة تحسين الخدمات، وترقية الجانب الاستثماري، لإعطاء صورة إيجابية عن السياحة الجبلية.

وتعتبر منطقة الوادي الأبيض الممتدة على مسافة تفوق 200 كلم، من جبال شيليا شرقا إلى غاية مشونش ببسكرة، من بين القواعد الخلفية البارزة التي احتضنت الثورة التحريرية، ما يجعلها شاهدة على شجاعة شعب أراد التخلص من قيود الاستعمار، وإذا كانت دشرة أولاد موسى ما تزال شاهدة على عملية توزيع السلاح في ليلة الفاتح نوفمبر 1954، فإن بقية المناطق المحاذية عرفت بالصمود ومحاربة العدو، بدليل المعارك البطولية التي عرفتها جبال شيليا وإينوغيسن وإشمول وآريس وغسيرة وتكوت وواد عبدي وغيرها من المناطق التي تكيّفت مع متطلبات الثورة التحريرية، والكلام ينطبق على مناطق ودوائر أخرى، على غرار مروانة وبريكة والشمرة وسريانة وغيرها.

ويجمع الكثير بأن مختلف هذه المناطق لم تأخذ حقها في التنمية والمشاريع الضخمة الكفيلة بامتصاص البطالة والتقليل من النزوح الريفي، كما لم تستثمر في الشقّ السياحي رغم تمتعها بسحر الطبيعة التي تؤهلها لأن تشكّل قواعد خلفية للسياحة الجبلية، على غرار مرتفعات شيليا والشلعلع وكوندورسي ووادي الماء ونقاوس وغيرها، ورغم لجوء بعض الخواص إلى فتح فضاءات للترفيه، واستقطاب الأطفال والعائلات في جلسات احتفالية، إلا أن ذلك يبقى غير كاف في نظر الكثير، في حال عدم تجنّد السلطات المعنية وفق استراتيجية سياحية تساهم في تفعيل مثل هذه المواقع الطبيعية والتاريخية المهمة.

 

مركز عبور تجاري وحضاري على مر الزمان

ALGERIE BATNA LE MARCHE BELLE ANIMATION Batna - PHOTOGRAPHIE Photos anciennes | vitaminedz

ظلت باتنة من أهم النقاط التي تمر بها القوافل التجارية القادمة من قسنطينة والمتجهة نحو أعماق إفريقيا، وقد ذكر الأستاذ العربي الزبيري في كتابه (التجارة الخارجية للشرق الجزائري في الفترة ما بين 1830-1792) ما يلي (…. فإن طريق قسنطينة يمر بعين مليلة وباتنة وبسكرة قبل أن يصل إلى محطة الفيض، حيث تنقسم القافلة فيذهب الجزء الأول إلى غدامس ويسلك نفس طريقها إلى كانو. ويتجه الثاني إلى ورقلة عبر تماسين ثم يأخذ مسلكها إلى تمبكتوا أو كانو…..).

وبعد أن تمكن الأتراك من بسط نفوذهم على الشرق الجزائري حاولوا أن يخضعوا منطقة الأوراس لسلطتهم، إلا أنهم فشلوا وبقيت المنطقة محافظة على استقلالها الداخلي ورغم أن البايات الأتراك قاموا بشن عدة هجمات إلا أنهم لم يفلحوا في فرض سلطتهم على سكان الأوراس بالقوة، لذلك نجدهم قد غيروا استراتيجيتهم وقاموا بانتهاج سياسة المهادنة وعقد تحالفات مع بعض القبائل والعشائر الأوراسية ومنحوها امتيازات كبيرة، وبذلك تمكنت سلطة البايلك من تحويل هذه القبائل إلى ما يعرف بقبائل المخزن، ومع مرور الوقت أصبحت قبائل المخزن هذه قوة حربية هامة ساهمت في تطبيق سياسة بايات قسنطينة، ومن أهم القبائل المخزنية التي اشتهرت بالمنطقة قبيلة الزمول التي اقتطعت الأراضي الصالحة للزراعة والرعي وتولت حراسة الممرات الجبلية بداية من عين مليلة إلى غاية القنطرة مرورا بباتنة وكذلك كتلة بلزمة برمتها والزمول عبارة عن خليط من العشائر وبعض الزنوج استقدموا إلى المنطقة من طرف الأتراك، وكلمة الزمول مأخوذة من لفظ الزمالة والذي هو في أصله كلمة أو لفظ أمازيغي يعني معسكر أو جيش – تازمالت- ومنها زمالة الأمير عبد القادر، وهذا التفسير وارد في القاموس العربي الأمازيغي للأستاذ محمد شفيق.

وإلى جانب هذه القبائل المخزنية، أقام الأتراك عدة حاميات عسكرية بالمدن الرئيسية آنذاك مثل تبسة وبسكرة وكانت حامية بسكرة تتولى مراقبة الجهات الجبلية مثل مشونش، منعة والخنقة والقنطرة. أما حامية تبسة فكانت تقوم بمراقبة تحركات النمامشة إلى جانب ما كانت تقوم به الحامية الرئيسية والمتمركزة بقسنطينة من خرجات منتظمة كانت تعرف عند الأهالي بمحلة الخريف والربيع. كما أن الأتراك لجأوا إلى استمالة مشيخات الأوراس التي كانت شبه مؤسسات حاكمة لها نفوذها وتأثيرها على الأهالي بالجهة، ومن أبرز تلك المشيخات نذكر مشيخة أولاد بن بوعزيز، مشيخة أولاد بن بوضياف وكذلك مشيخة أولاد عبدي وغيرها.

ضف إلى ذلك تلك الأحلاف القبلية التي كانت قائمة حينها كحلف قبيلتي الحراكتة وأولاد عبد النور وحي كشيدة، وقد تولى قيادة مثل هذه الأحلاف بعض القادة من رجال البايلك مثلما هو الشأن بالنسبة لصالح باي الذي كان قد عُين قائدا لحلف الحراكتة قبل أن يصبح بايا على قسنطينة. ولم يهمل الأتراك الزوايا المحلية نظرا لدورها الهام ومكانتها عند الأهالي، فشيوخ هذه الزوايا كانوا يقومون بعدة خدمات اجتماعية وثقافية كإقرار أحكام الشريعة وفض النزاعات والتوسط بين الأعراش المتخاصمة، إلى جانب تعليم القرآن وهذا ما جعل حكام البايلك يمنحون امتيازات لشيوخ هذه الزوايا ويرسلون إليهم هدايا، ومن الزوايا الشهيرة آنذاك نذكر زاوية بن عباس بمنعة وزاوية أولاد سيدي يحيى بواد بني فضالة، آخر شيوخها أثناء الحقبة العثمانية هو سيدي أحمد الزروق وزاوية سيدي أحمد بن بوزيد المعروفة بمولي القرقور بالقرب من سريانة آخر شيوخها قبل الاحتلال هو سيدي محمد بن سي بلقاسم، كذلك زاوية بلقاضي التي يعود تأسيسها إلى أحد أبناء بلقاضي الشهير وتقع هذه الزاوية بناحية جرمة عرفت فيما بعد بزاوية بلحاج آخر شيوخها سي محمد بلقاضي ابن سيدي بلقاسم بلقاضي.

إلى جانب الزوايا كان هناك شبه نظام إداري أساسه ما يسمى بشيخ الخلعة، حيث كان الشيخ يتسلم منصبه كقايد من طرف سلطة البايلك، وفي مقابل هذه التولية يقدم مبلغا ماليا للبايلك، وقد قدر في أواخر العهد العثماني بثلاثة آلاف بوجو ريال فضة وكان شيخ الخلعة يمارس صلاحياته بمساعدة قوة مسلحة تتكون في مجملها من فرسان مسلحين ببنادق وسيوف ويعرفون باسم المزارقية، وتكمن مهمتهم أساسا في استخلاص الضرائب وفرض الغرامات إلى جانب مهمتهم الرئيسية والمتمثلة في تنفيذ أوامر البايلك.

 

المنابع الطبيعية الخيار البديل للسياحة في جبال وقرى باتنة

عرفت المنابع الطبيعية بولاية باتنة استقطابا واسعا في المدة الأخيرة من قبل السكان والزوار على حد سواء، ففي ظل غياب خيارات فعالة من الناحية السياحية والفندقية، فإن سكان باتنة لا يتوانون في القيام بزيارات فردية وعائلية إلى جبال وقرى عاصمة الأوراس بغية جلب المياه الصالحة للشرب من منابعها الأصلية، إضافة إلى تغيير الأجواء على وقع المناظر الطبيعية والنسيم العليل.

عبّر الكثير من سكان باتنة وبقية القاطنين في المدن الداخلية عن غياب استراتيجية سياحية فعالة، بدليل ندرة مراكز الإيواء، وانعدام مشاريع الفندقة رغم الوعود والكلام الذي قيل حول إمكانية تعزيز المناطق الأثرية والطبيعية التي تستقطب السواح، إلا أن عدم تجسيد مشاريع طموحة في هذا الجانب جعل سكان باتنة يلجأون إلى خيار بديل لتغيير الأجواء، من خلال التنقل إلى المنابع الطبيعية في مختلف مرتفعات وقرى باتنة، والتي تحوّلت إلى قبلة للمواطنين والسواح، خلال نهاية الأسبوع وأيام الراحة،

كما تم تسجيل إقبال كبير للمواطنين لتوفير الماء المخصص للشرب أو للطبخ من الينابيع الجبلية، في ظل تحفظ بعض الأسر من ماء الحنفيات الذي يأتي من سد كدية لمدور بتيمقاد، إضافة إلى الاستمتاع بالمناظر الطبيعية التي تتميز بها الأماكن التي تقع فيها مجمل الينابيع الطبيعية، على غرار منبع أشرشار أو برباقة بوادي الطاقة التي تسجل إقبالا قياسيا للزوار، والكلام ينطبق على المناطق الجبلية بالمحمل وثنية العابد، وكذا منبع جرمة في المدخل الشمالي لمدينة باتنة، ومنبع شابورة وشناورة بتكوت، ومنبع سعيدة بنقاوس، ومنبع كاسرو بمنطقة فيسديس، ومنابع شيليا، وكذا منابع هيفكرث وهوشنت وتاجرنيت بإينوغيسن، إضافة إلى المنبع الشهير الواقع في الطريق المؤدي إلى بلدية سريانة، دون نسيان منطقة كوندورسي التي تتمتع بمرتفعاتها الجبلية ومناظرها الغابية، إضافة إلى تنوع المجاري والمنابع الطبيعية، وكذا منابع عين التوتة وحيدوسة والشمرة وتيمقاد وغيرها، وهو ما يتيح الفرصة لتغيير الأجواء واستنشاق النسيم العليل، وبالمرة العودة إلى منازلهم بنفس جديد.

وأرجع بعض سكان المنطقة سر الإقبال الجماعي على المنابع الطبيعية، إلى نوعية المناظر الطبيعية التي تتمتع بها ولاية باتنة، والتي تضمن ازدواجية بين السياحة وتغيير الأجواء، إضافة إلى جلب الماء الشروب من المصدر، والاستمتاع بما توفره السياحة الجبلية من مزايا ومكاسب، لتبقى زيارة مثل هذه المواقع خيارا بديلا في انتظار أن تفكر الجهات الوصية في تجسيد مشاريع سياحية فعلية تواكب متطلبات ومواصفات عاصمة الأوراس، بعيدا عن التلاعب بلغة الأرقام دون نتائج ملموسة.

ل . ب