بعد موجة البرد والثلوج التي ضربت البلاد, “العولة”… هل ما تزال تحتفظ بمكانتها لدى الجزائريين؟

بعد موجة البرد والثلوج التي ضربت البلاد, “العولة”… هل ما تزال تحتفظ بمكانتها لدى الجزائريين؟

بين “العولة” وحلول فصل الشتاء، مدة زمنية طويلة كانت أو قصيرة، تبقى دائما مدة، تغتنمها مختلف الأسر الجزائرية للتحضير لمواجهة الفصل البارد، فكل ما يهم تلك الأسر، خاصة التي تقطن المداشر والقرى، أن توفر كل شيء وفي وقت قياسي، دون أن تهتم من جهة أخرى، إذا ما ظل رب البيت يعاني شهوراً، خاصة وأنه أنفق كل ما يملكه على شهر رمضان والعيد فالدخول المدرسي.

و”العولة” المعروفة في دول المغرب العربي، خاصة في تونس والجزائر، هي كل ما يتم خزنه في فصل الصيف من مؤونة لاستغلالها خلال فصل الشتاء.

 

العائلات الجزائرية “تقرا للزمان اعقوبة”

وما تزال عائلات جزائرية كثيرة تجتهد في التحضير لـ “العولة”، خاصة في المداشر والقرى الجزائرية، كأنها “تقرا للزمان اعقوبة”، وما زال الجميع يذكر العواصف الثلجية التي هبت على تلك المناطق سنة 2012 التي لولا مساعدات الناس لها وما كانت تدخره من أكل في بيوتها، لأصيبت بما لا يحمد عقباه.

وحتى لا يتكرر السيناريو، جندت الأسر الجزائرية التي تقطن الجبال والمداشر وحتى في المدن، نفسها لاستقبال الشتاء، بأمطاره وثلوجه بأقل الخسائر، حتى أصبحت الأمهات تلقن بناتها أبجديات الإعداد والتخزين، بالرغم من أن كل شيء أصبح متوفرا في المحلات التجارية الكبرى ومعلبا وجاهزا للاستهلاك.

 

“الكسكسي” منتوج صيفي لعشاء شتوي

… منذ سنوات كثيرة خلت، والمرأة الجزائرية تواجه مكر الزمن بحلول الشتاء بـ “فتيل السكسو”، وبالرغم من توفر هذا الأخير جاهزا في المحلات، فإنه لم يمنع الجزائريات من مواصلة مشوار الجدات عبر آلاف السنين، فلا يخلو أي بيت جزائري تقريباً من أنواع الكسكسي المجفف، سواء المفتول من الشعير أو كسكسي القمح وحتى حبات شوربة الشعير الجافة وأنواع كثيرة أخرى من المعجنات، فضلاً عن تجفيف الطماطم، بتقسيم القطعة إلى قسمين وعرضها للشمس لفترة معينة وهي مطلية بالملح قبل أن تُغمس في زيت الزيتون، لتأخذ مكانها في آنية فخارية أو بلورية في ركن من المطبخ. ويتم أيضاً صنع نوع من الهريسة المستخلصة من الفلفل الأحمر والفلفل الأخضر وإعداد الفلفل الأحمر المطحون للطبخ، إلى جانب تخزين التوابل بأنواعها.

 

جزائريات ما زلن على عهد إعداد عدّة “العولة”

روت خالتي “وردية” من منطقة القبائل، التي تكمل عامها الثامن والخمسين، أنها ومنذ طفولتها والأسر القبائلية تواظب على صنع وتحضير العولة بهدف تخزينها حتى يجابهوا بها الشتاء، ولتكون دخرا لهم، وتواصل سردها قائلة: “كانت في البيوت، وخاصة في أماكن معينة، لا تبعد عن مقر سكننا إلا بضع أمتار، كهوف صغيرة لتخزين ما أمكن من معجنات وتوابل وبقول”، وأضافت “بالرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً في إعداد العولة، على اعتبار أن العمل لتحضيرها يأخذ وقتاً طويلاً ومتعباً بشكل كبير، لكن ما تزال الكثيرات حريصات على إعدادها، خصوصا وأن موجات البرد وعواصف الثلوج تهددنا”.

في حين ترى “فاطمة”، 23 سنة خريجة كلية الإعلام، بأن مسألة الإعداد لـ “العولة” ليست مجرد تحضير وتخزين بقدر ما هي فرصة لالتقاء جميع أفراد العائلة في بيت الجد، سواء المقيمين داخل البيت أو خارجه من عمات وزوجات أعمام حتى يساعدن بعضهن في الفتل خاصة، مضيفة، بأنها لطالما انتظرت هذه المناسبة كل صيف كي تقضي أسبوعاً أو أكثر بصحبة العائلة الكبيرة، أين يجتمع الجميع في أجواء عائلية لا تتوافر دائماً، بحكم بعد المسافات وانشغال بالأمور الخاصة.

أما الحاجة “علجية ” فتحسرت على أيام زمان بقولها أن كل شيء قد تغير اليوم، فقد كانت النسوة تحضر أنفسهن لوقت الشدة.. وتقوم بتخزين حتى الحطب لاستغلاله في التدفئة والطهي.

وأضافت بأنها لا تعتمد على كناتها في الادخار، فهي ما تزال على عهدها به، تجهز وتحضر حتى لا تقع في شر وهول الأيام القاسية.

 

رجال وحنينهم إلى الأيام الخوالي

من جهته، تحدث الشيخ امقران، مبديا حنينا جليا، أنهم في زمن غير بعيد، كانت نساؤنا تدخر كل المواد الغذائية الأساسية، من دقيق وشعير وزيت وحتى اللحم المجفف، الذي يعرف في بعض المناطق بـ “القديد”، قبل دخول فصل الشتاء، مستخدمين في ذلك دهاليز للحفاظ على تلك المواد، على أن يقوموا بإخراجها في الأوقات الصعبة من الفصل.

وأظهر الشيخ مقران حنينا كبيرا لتلك الأيام التي وصفها بالأيام المباركة، منوها إلى أن اليوم وبالرغم من أن النساء بدأن يبتعدن شيئا فشيئا عن ثقافة “العولة”، فالمتمسكات بها ورغم قلتهن إلا أن الوقت لم يعد يبارك فيما خزن.

بالرغم من أن “العولة” بدأت تتراجع في السنوات الأخيرة، لأسباب كثيرة لعل أبرزها وجود كل متطلبات الحياة اليومية في كبريات المحلات التجارية مما يدخر على النفس عناء الجهد والتعب، غير أن هذا يمكن له أن يتكسر، خاصة وأن الطبيعة ما تزال مع عهد مفاجأتها للإنسان، كما حصل في العام الماضي، وهو ما تطلب من الأسر الجزائرية أن تكون أكثر وعيا بما قد يحصل هذه السنة، فإذا كان في تحضير “العولة” تعب وإنهاك، فإن الطبيعة لا تشفع لأحد والحظ الوفير مع من أحسن التدبير….

 

الظروف المناخية الصعبة بسوق أهراس تذكّر بأهمية “العولة”

أعادت موجة الثلوج الكثيفة التي تساقطت مؤخرا بولاية سوق أهراس إلى الأذهان أهمية عادة “العولة” التي كانت تحضرها العائلات لضمان المواد الغذائية خلال فصل الشتاء، وكشفت عيوب “روح الإتكالية” السائدة اليوم، حسب ما عبر عنه العديد من مواطني ولاية سوق أهراس الواقعة بأقصى شرق البلاد.

 

الأستاذ الباحث في التراث الشعبي جلال خشاب: “العولة” تمثل العيش المتوازن للفرد

اعتبر الأستاذ الباحث في التراث الشعبي جلال خشاب من جامعة سوق أهراس أن “العولة” تمثل العيش المتوازن للفرد، حيث يبدأ في تحضيرها في فترة الحصاد وبيع المنتوج، مشيرا إلى أنه نظرا لكون المجتمع السوقهراسي مزارع، فإن نسبة 80 بالمائة من مؤونته المدخرة أو “عولته” من مواد غذائية مصدرها العجائن على غرار الكسكسي والدقيق والمحمصة والروينة “الطمينة” إلى جانب ثمار جافة مثل المشمش وعين البقرة والزبيب والرمان.

وتسعى العائلات بسوق أهراس منذ القدم إلى مسايرة الفترات المناخية سواء الباردة أو الحارة وعلى وجه الخصوص الباردة، لأنها تتطلب الادخار والتفكير في الإنفاق، لذا يعمد أهل المنطقة إلى تحضير أكلات غنية بالدهنيات مثل العصيدة المدهونة بالزبدة والعسل أو الرفيس والغرايف والمحاجب، مما يعطي طاقة حرارية لجسم الإنسان ويمكنه من القيام بنشاطه الفلاحي الصعب.

 

السوقهراسي والعيش تحت شعار:

“لا تأمن الجو إذا صحا وإذا صحا غير حطّب”

كما يعتمد السوقهراسي منذ القدم على نظرة استشرافية للطقس المجسد في مقولة “لا تأمن الجو إذا صحا وإذا صحا غير حطّب” وهي إشارة واضحة إلى “وجوب الاستعداد” لفصل بارد وشاق وتخصيص زاوية من سكنه لحطب التدفئة كما أشار الباحث جلال خشاب.

 

سوق أهراس وتقسيم الغذاء حسب المناخ

ويتعامل المواطن بسوق أهراس مع الظروف المناخية الصعبة انطلاقا مما هو موجود ومتوفر ما بين يديه للقيام بتحضير بعض الأطعمة الأخرى من قديد وخليع (لحم مجفف) والاجتهاد في توزيع المؤونة المدخرة بحسب التقسيم المناخي المتعارف عليه، والذي يبدأ من الليالي البيض (أواخر ديسمبر) ثم الليالي السود (أواسط جانفي تقريبا)، إلى جانب التقلبات الجوية المعهودة مثل “قرة حيان” و”أيام الجوارح” التي تدوم 9 أيام في فصل الشتاء (فيفري) فالمباركيات (أواخر فيفري).

وعلى الرغم من أن المادة الأساسية المستعملة في الأكل المحضر عبارة عن عجائن، إلا أن أشكاله تتعدد وتتنوع ما يعطي شيئا من الجاذبية والإقبال على الأكل، وهو دلالة على مراعاة المجتمع السوقهراسي للجوانب الفنية الجمالية مثل تحضير الكسرة التي تتعدى 5 أنواع، فضلا عن أشكالها ما بين الدائرية ذات العلاقة بالحياة والنجاح والرفاه وكذلك المثلثية ذات الارتباط بالخصب والحياة الهنيئة.

كما يجد التمر بأنواعه مثل الغرس سبيلا إلى مكونات “العولة” التي “يعول” عليها في توفير الغذاء طيلة فترة الشتاء الصعبة عبر مجموع أرياف ومداشر هذه الولاية على غرار منطقة عين الزانة وأولاد ادريس وعديد بلديات الشريط الحدودي التي كستها الثلوج.