تتقاسم الأُمّهات اللواتي يعملن في مهن تحتاج إلى دوام ليلي إحساسا بالذنب حيث يتضاعف شعورهنّ بالتقصير تجاه العائلة، وبأنهنّ لا يواكبن أطفالهنّ في أكثر الفترات التي يحتاجون فيها إلى الحضن الدافئ، ويفتقرون إلى متطلبات غالباً ما تكثر عندما يسدل الليل ستاره. وكما يُحرم الطفل من حنان والدته وحضنها ساعة يخلد للنوم، تُحرم هي كذلك من متعة الكثير من اللحظات الجميلة في حياة فلذة كبدها. يحصل ذلك،
على الرغم من أن بعض الأُمّهات العاملات في النهار، يحسدن الأُمّهات العاملات في الليل، لمجرد أنّ الأخريات يمضين، في رأيهن، وقتاً أطول مع أطفالهن في يومياتهن الحافلة دائماً بكل جديد.
عقدة ذنب
عملها كقابلة يفرض على مريم شعبان أن تكون في قاعة الولادة بنفس المستشفى مع صليحة أي بمصطفى باشا، الأمر الذي يستمر طيلة الليل أمام النساء الحوامل، لهذا تقول “مريم” إنها في محطات كثيرة تحمل “عقدة ذنب”، ولاسيما “في ما يخص الرضاعة”. وإذ تتحدث غنية عن تجربتها مع عمل الليل، تقول: “لقد تركت طفلي عدة مرات، وعدتُ إلى العمل بعد 3 أشهر، أي بعد نهاية عطلة الأمومة حسب القانون الجزائري وموعد مغادرتي المنزل كان غالباً ما يترافق مع موعد الرضاعة”، وتضيف: “في إحدى المرات، صبرت لينتهي ابني من الرضاعة، لكنه أطال. عندها لم يكن لديّ حل سوى سحب ثديي من فمه، وتركه في عهدة شقيقتي وهو يصرخ صراخاً عالياً ومراً، إنّه الجوع. تركته يبكي، وأنا بدوري رحتُ أبكي في طريقي إلى عملي”، وتتابع: “على الرغم من أني أعمل ليلتين في الأسبوع حتى وقت متأخر، إلا أنّ طفلي لم يتكيف مع ذلك، وتشير مريم إلى أنّه “لا شك في أنّ هذا الواقع الذي يعيشه الأطفال، ينعكس سلباً على الأُم، ويؤدي إلى توترها الدائم خلال العمل”، وتصف عمل الليل بالأزمة الكبرى وتقول “فأنا أشعر بحاجة الطفل إلى والدته ليلاً أكثر من النهار. ربما هو يحتاج مع حلول الظلام إلى مزيد من الدفء، وإلى أن نروي له حكاية وغيرها من الأمور”. وتضيف: “منذ أن بلغ ابني عمر الثالثة، وهو يشجعني على ذلك العمل، حتى أنّه كان يقول لي: “لا تشتري لي شيئاً فقط أريدك بقربي”. أما طفلتي، فكانت تتساءل عن ضرورة المال وتتابع: “الآن صار طفلاي واعيين، وكل ما يقومان به لحظة وداعي هو أنهما يتنافسان حول من منهما سيقبّلني القبلة الأخيرة. ومرحلة الوداع هذه لا أعرف كيف أتملص منها”. وتشير الطبيبة الأم إلى أن “رعاية الأطفال من قبل الأهل في ظل غياب الأُم، أمر فيه بعض الأمان”. وتقول: “بالنسبة إليَّ، لم أكن لأترك أطفالي برعاية مساعدة غريبة”. وتضيف: “رغم وجود أهلي بالقرب من أطفالي، إلا أني أشعر بالألم الكبير، فكيف مع وجود انسانة غريبة؟ “تعتذر أم الطفلين محمد و أسماء عن الذهاب إلى عملها، فقط عندما يكون أحد أطفالها مصاباً بحرارة مرتفعة أو تذهب وتصطحبهما معها الى المستشفى و تقوم هي بالعناية الطبية لهما أو عند إحدى زميلتها في العمل، فالمهم أن يكونا قربها، لكن متى؟ عندما يكونا مريضين.
أزمة ضمير
هل يكون الأطفال ضحية الأُم التي تعمل ليلاً؟ تجيب السيدة والأم عابد فريال بعد تمهل: “ليس بهذا القدر. فليس لي أن أجعل العلاقة بين عملي وأمومتي مسألة درامية. أشعر فقط بالنقص في الحنان والعاطفة عندما يستيقظ الأطفال ونحن بعيدون عنهم. وربّما هذا يقلقني، ويتعبني، أكثر مما يترك أثراً فيهم، لأنّهم بكل تأكيد سيجدون من يرعاهم في ظل غيابي. وعادة ما أقوم بكل واجبات اليوم المطلوبة مني كأُم وربة منزل، ثمّ أغادر إلى عملي. لهذا، أكون في غاية الإرهاق مساءً أو حتى خلال ذهابي إلى العمل”، وماذا يقول لك ابنك الأصغر عندما تغادرين العمل بعد الظهر؟ تجيب فريال: “سفيان دائماً يردد: “الآن أنتِ ذاهبة إلى العمل”؟ مع العلم أنّه صار يربط بين العلم والعمل لاحقاً، ويعي ضرورة العمل لتأمين متطلبات العيش”. وتقول: “لقد صار على قناعة بهذا المبدأ الحياتي، وبات يربط الأمور بعضها بالآخر، ولاسيما عندما تكون لديه متطلبات. لكن، في كثير من الأحيان تغلبه طفولته وأنانيته لجهة الاستئثار بوالدته. ولأني أعمل 3 أيام متتالية فإنني أحاول التعويض عليه بالاهتمام والنزهة واللعب”. وتضيف: “بصراحة، ابني سفيان يطالبني بالذهاب إلى العمل بعد نومه ليلاً وليس بعد الظهر، وهذا دليل حاجته إليّ بعد الظهر. ولا شك في أن أزمة الضمير تلازم الأُم، وهي لا ترضى عن عطائها لأولادها، سواء تركتهم خلال النهار أو الليل. والأُم التي تعمل بدوامات عمل مماثلة عليها أن تمكّن أطفالها من تحقيق استقلاليتهم بعيداً عنها”. وتقول: “المرأة ناضلت واجتهدت، لتدفع المجتمع إلى أن يتعامل معها على قدم المساواة مع الرجل، بغض النظر عن أمومتها. نحن نطالب بالمساواة الإنسانية بين المرأة والرجل، لكن في الحياة الاجتماعية، لدى المرأة مسؤوليات أكبر من الرجل على صعيد الأسرة، حتى إن كان زوجها مسانداً بنسبة مئة في المئة”. وتشير إلى أنّه “لهذا، يكون هناك نسيان أو تجاهل للأمومة في كثير من الأحيان”.
أما السيدة صليحة مدور، فقد عاشت السنوات العشر الأوائل من عمرها المهني وهي عازبة، حيث إنها لم تكن تعرف مسؤوليات الأسرة. تروي أنّها أنجبت طفلها الأوّل قبل الالتزام المهني بالمستشفى الجامعي “مصطفى باشا” كطبيبة وتقول عندما “مع التزامي بعملي الجديد، حملت بطفلي الثاني. وقبل قبولي بفرصة عملي هذه، تناقشت مع زوجي في متطلبات العمل في المستشفى اليومي ووضعته في الصورة كلياً. وشرحت له مدى اختلاف هذا العمل عن العمل الأسبوعي أو الشهري” أو حتى مع باقي الاعمال الأخرى فمهنة الطبيب مهنة شريفة وهي لخدمة صحة الفرد وتقول: “أما الآن زوجي يحب عملي، ويدعمني لأتقدم وأتطور فيه، فقد كان مشجعاً لي ومحفزاً للقبول بهذه الفرصة”، وإذ تؤكد صاحبة 32 سنة شعورها الكبير “بالتقصير” حيال طفلها الثاني، وأنّها لم تشبعه من حنانها، ولم ترضعه.