رغم الحلول التي اعتمدتها السلطات العمومية ومخططات التسيير والتهيئة الحضرية على مستوى النقل، يبقى الجزائريون يعانون في التنقل من مكان إلى آخر، سواء داخل الحافلات لاهتراء نسب كبيرة منها، أو لغلاء التنقل في سيارات الأجرة، أو لكثرة الازدحام المروري الذي يخنق المدن الكبرى.
تعاقبت الحكومات في الجزائر ومشكل النقل العمومي واحد رغم محاولات تهيئة جديدة بمخططات واعدة، إلا أنّ مشاريع الحكومة لم تحقق المطلوب، فعلى صعيد النقل بالحافلات تشهد مختلف المدن الجزائرية، لاسيما الولايات الكبرى، فوضى عارمة، فمثلا في العاصمة لكي تتنقل من منطقة إلى أخرى ستستغرق وقتا طويلا، لكثرة الازدحام المروري وبسبب حافلات تجاوزها الزمن، ولكنّها ما تزال حيز الخدمة.
النقل الخاص في الجزائر انتهاك للكرامة
من خلال جولة استطلاعية في بعض محطات النقل بالعاصمة، استطعنا الوقوف على مدى حالة المعاناة والبؤس التي يتكبدها المواطن “الزوالي” الذي يلعن حظه ألف مرة بعدما لم يجد من خيار سوى استقلال الحافلات الخاصة لقضاء مصالحه في ظل ضعف خدمات النقل العمومي.
ويمكن الإجماع على حالة محطات النقل الخاص التي يصفها البعض بـ “شر البقاع”، فغالبا ما تكون الحافلات مصطفة بطريقة عشوائية ويعم المكان حالة من الفوضى العارمة، أصواتٌ عالية تنبعث من كل اتجاه.. هي أصوات القابضين (الروسوفور).. كل ينادي على وجهته.
“الروسوفور” عدوانية لا متناهية في التعامل
غالبا ما يكون “الروسوفور” شبابا في العشرينات من العمر يرتدون ألبسة لا تمت بصلة إلى نوعية عملهم كقابضين، وتلمس من خلال لهجة كلامهم نوعا من العدوانية، يختلجك خلالها إحساس وكأنك تحت رحمتهم.
غبن يومي يعيشه المواطن
كل هذا والمواطنون في حالة زحام وملامح الغبن و“الميزيرية” بادية على محياهم منتظرين قدوم حافلة فارغة ليهرعوا لامتطائها وسط تدافع وتزاحم رهيب، علهم يحظون بمقاعد فيها، على الأقل يضمنون الجلوس بجنب النافذة متفادين حالة الاختناق جراء ضيق التنفس وانبعاث الروائح الكريهة التي لا يمكنك تمييزها، فهي مزيج مكون من رائحة العرق والأحذية والعطور زيادة على رائحة المازوت أو البنزين المنبعث من محركات الحافلات..
وقت طويل في انتظار قدوم الحافلة ووقت أطول في انتظار إقلاعها
ما إن تصعد الحافلة إلا وتبدأ المشاكل والشجارات مع السائق والقابض.. فالسائق لا ينطلق إلا إذا ملأ الحافلة عن آخرها ولو تطلب الأمر منه ساعة كاملة، غير مُبالٍ باحتجاجات الزبائن رغم أنه قد ضمن الحد الكافي من عدد المسافرين ليغادر المحطة وقد تخطى كذلك الـ 15 دقيقة (وهو الزمن الأقصى الذي حددته وزارة النقل لانطلاق الحافلة).
تقول “آسيا” شابة في العشرينيات وجدناها تنتظر قدوم حافلة غير مزدحمة: “غريب أمر هؤلاء.. تجدهم يملؤون الحافلة عن آخرها بالمواطنين مرددين عبارات “خويا زيد افونسي لاريار (يقصدون تقدم إلى الأمام)” ..”اختي كاين ليسباس ادناي” .. ” مادام شدي وليدك قدامك خلي كاش واحد يريح” .. وغيرها من العبارات التي تثير الاشمئزاز، فهم يقومون بتكديس الركاب ولا يغادرون المحطة حتى يشاهدوا الأشخاص ملتصقين ببعضهم.. رغم أن هناك في انتظارهم ركاب آخرين في نقاط توقف أخرى، لكن الحافلة لا تنطلق إلا إذا كانت مملوءة عن آخرها وعند وصول أول نقطة توقف فينزل شخص أو اثنان لتجد العشرات من الناس يرغبون في الركوب.. لكن لا مكان.. – تواصل آسيا كلامها –: فلو انطلقت الحافلة غير ممتلئة لكان بإمكان هؤلاء المواطنين الركوب.. صراحة أصحاب الحافلات يفتقدون للذكاء، فلو فكروا بعقلانية لكان أنجع لهم وسيقتصدون الوقت الكثير بدل انتظارهم الطويل في المحطة الرئيسية.. “.
“الصرف” سبب ملاسنات يومية بين القابض والمواطن
قد لا تشكل مسألة عدم تقديم التذكرة تجاوزا خطيرا بالنسبة إلى الزبون، فهي أهون أمام ما يجابهه من تجاوزات أخرى، فصار المواطن حريصا جدا على ألا يقدم للقابض ورقة نقدية من صنف 500 دج أو 1000 دج أو 2000 دج فتجده في رحلة بحث عن “الصرف” قبل صعود الحافلة يتجنب بها الوقوع في صدام مع القابض الذي ما إن يرى الورقة حتى يبدي امتعاضا وتأففا بحجة عدم امتلاكه “الصرف” إلا أنه يقبضها واعدا بتقديم الصرف قبل نزول الراكب.. لكن هيهات.. ففي معظم الأحيان تجد القابض فارا بالنقود، وإذا ما استفسره الراكب عن الصرف يدّعي نسيانه وأحيانا أخرى يُنكر استلامه لورقة نقدية من طرفه، لتحدث جراءها ملاسنات كلامية تتطور إلى شجار وأحيانا إلى ما هو أكبر…
في محطة “الحراش” ببومعطي تحديدا، وجدنا سيدة متقدمة في السن وهي جد حيرانة وقلقة وعيناها تلتفت يمينا وشمالا.. فلما استفسرناها عن سبب ذلك، قالت إنها في انتظار حافلة كانت قد امتطتها منذ ساعتين باتجاه باب الزوار وعند نزولها نسيت أخذ “الصرف” من عند “الروسوفور”، حيث قدمت له ورقة 1000 دج فأرجع لها 98 دج فقط ووعدها بتقديم 900 دج قبل نزولها.. ولكنها نسيت ونزلت بدون أخذ المبلغ.. لتتذكر ذلك حين قصدت الصيدلي لشراء الدواء، فلم تجد النقود الكافية، فنصحها أحد المحسنين بالعودة الى محطة الحراش علها تجد هناك القابض خاصة أنها تتذكر ملامحه جيدا، راجية الله ألا ينكرها ويخذلها.
سائق حافلة.. والسباق نحو المحطة
المتأمل في طريق قيادة سائق الحافلة يدرك أنه ليس أمام سائق طبيعي وإنما أمام عقلية مزاجية تسوق وفق أهوائها وتخضع إلى معايير لا يجد لها العقل تفسيرا، فالسائق في كامل حريته يقف متى شاء وأين شاء.. يجري بسرعة جنونية في سباق مع حافلة أخرى متسارعيْن أيهما يصل الأول إلى المحطة النهائية، خارقين قوانين السير غير آبهين بالركاب سواء كانوا رجالا أو نساء أو أطفالا أو مرضى أو نساء حوامل.. حتى لو كلفهم الأمر تجاوز عدة مواقف بها أناس ينتظرون ركوب الحافلة.. فتجد السائق يمر عليهم بسرعة البرق وكأنهم غير مرئيين.. وإذا طلب أحد الركاب النزول يسأله لماذا لم يخبره من قبل، فيضطر لإنزاله والحافلة لا تزال تسير، وقد حدث وأن سقط الكثير منهم وأصيبوا بإصابات بليغة.
على نقيض كل هذا تجد السائق نفسه، وفي أوقات أخرى يسير ببطء كبير، يتوقف في كل لحظة ولمدة طويلة والقابض ينادي الناس وكأنه يترجاهم لركوب حافلاته مثيرا سخرية واستهزاء الركاب واستياءهم في ذات الوقت.
حافلات منتهية الصلاحية ما تزال قيد الخدمة
الوضع متشابه سواء كنت في محطة بن عكنون أو بومعطي بالحراش والكاليتوس والأربعاء وغيرها.. بمجرد دخولك إياها يتهيأ لك وكأنك قادم إلى مدينة مدمرة جراء الحرب، فالأرضية غير مهيأة وفي حالة اهتراء قصوى.. غبار يتطاير، قمامات هنا وهناك، أما الحافلات فهي قديمة في مجملها تعود إلى سنوات طِوال تفتقد إلى الصيانة لا تلبي متطلبات المسافرين ورفاهيتهم، على غرار المقاعد المكسرة ذات الأغلفة الممزقة. كل هذا دون الحديث عن الأعطاب التي تصيب هذه المركبات مجبرة الركاب على النزول وتدبُر أمرهم.
جملة من الإجراءات لردع الحالات
اتخذت السلطات عديد الإجراءات والتدابير التي من شأنها الحد والتقليل من حدة حوادث المرور المميتة على مستوى الطرقات والمتسبب فيها سائقو الحافلات للنقل البري للمسافرين، أهمها السحب الفوري لرخصة الاستغلال لكل متسبب في أي حادث أليم، كإجراء ردعي وقائي حتى يعتبر بقية السائقين.
هذه الإجراءات جاءت كنتيجة حتمية لتوالي حوادث الحافلات المسجلة عبر فترات متقاربة بربوع مناطق الوطن والتي راح ضحيتها العشرات من المواطنين.
لمياء بن دعاس