ثمّ هاهو النبي صلى الله عليه وسلم عند الهجرَةِ بعد أن أَذِنَ اللهُ تعالى له بالخروجِ ــ كما روى التّرمذيُّ ــ يقول متحسِّرًا على تركِهِ بلده “وَاللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”. وزاد الإسلَامُ على ذلك الارتباطِ والحُبِّ للأوطَانِ لمسَةً ربّانيَّةً روحانيَّةً، فَدَلَّنَا على الاستشفَاءِ بتربَةِ البَلَدِ بإذنِ اللهِ، فقد روى الشّيخانِ عن عائشةَ رضي الله عنها :أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا “بِاسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا”. وقد استخرج العلامةُ ابنُ باديس من هذا الحديث معنى رائقا رائعا في الحبِّ الوطنِ، حيث قال: «ولو أننا عرضنا حديثَ التّربَةِ والرّيقَةِ على طائفَةٍ من النَّاسِ مختلفَةِ الأذوَاقِمتقسمَةِ الحظوظِ في العلمِ وسألناهم: أية علاقَةٍ بين الشّفاءِ وبين ما تعاطاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من أسبابِهِ في هذا الحديثِ؟فماذا تراهم يقولون؟ …..وقال أيضًا: “فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ” البقرة: 194. وقال بخصوصِ التّراجُعِ والتّخاذُلِ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ” الأنفال: 15 ــ 16. وَعَدَّ الإسلَامُ من مات دون دينِهِ أو مالِهِ أو عِرضِهِ شهِيدًا، فقد روى التّرمذيُّ عن سعيد بن زيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ”؛ واجتمعت كلمَةُ علمَاءِ المسلمين على أنّ من مات يدافِعُ عن وطنِهِ المعتَدَى عليه فهو شهِيدٌ، لأنّه مات يدافِعُ عن جميعِ هذه الأمورِ أو بعضِهَا، فيكون في أعلى دَرَجَاتِ الشَّهَادَةِ.
من موقع إسلام أون لاين