بعد أن كانت الأزقة والأحياء الشعبية معرضا لصناعة كل ما هو تقليدي ساهم ومنذ تأسيس الدولة الجزائرية في ترسيخ الهوية الوطنية، فتنوعت الصناعات واختلفت، لكنها أصبحت تتراجع يوما بعد آخر، انطلقت بتراجع صناعة “حايك المرمة” و”عجار الشبيكة” الذي ارتبط بالعاصميين لسنوات طويلة،
ثم جاء دور صناعات أخرى بنفس الأهمية لتجد نفسها في صراع مع الزمن للبقاء، حاولنا التطرق لبعضها ويتزامن ذلك مع صفارة الإنذار التي أطلقتها فيدرالية الحرف التقليدية التي وصفت الوضع بـ “الخطير” ودعت الجهات المعنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
صناعة النحاس.. صراع عبر الزمن
تصارع حرفة صناعة النحاس من أجل البقاء بعد تراجع عدد ممتهنيها بشكل كبير، حيث فرضت السرعة سيطرتها على كل شيء ليصبح بموجب ذلك الزبون يفضل الأشياء الجاهزة والبسيطة ولا يكترث بالصناعة النحاسية المتقنة لتزيين منزله بها أو استعمالها في أشغاله اليومية، وحسب تقارير الفيدرالية الوطنية للحرف التقليدية، فإن عدد الحرفيين المتخصصين في صناعة النحاس تراجع بشكل كبير بعد أن كان عددهم يتجاوز الألف عبر الوطن بعد الاستقلال، ليصبح اليوم حوالي مائة صانع، فالعاصمة لوحدها لا يوجد بها سوى 6 محلات لصناعة هذا الأخير، ويسعى العديد من حرفيي النحاس، ممن انتقلت لهم الصنعة عن طريق الوراثة لإعطاء دفع جديد لهذه الحرفة التي يعشقها الأجانب ويأتون خصيصا من أجلها من دولهم، إلى محلاتهم الضيقة والصغيرة التي ما تزال قائمة على طبيعتها الأولى، للظفر بقطعة من النحاس الجميل المنقوش بطريقة يدوية تعتمد على وسائل تستخدم منذ الخمسينيات.
في المقابل ساهم غلاء المادة الأولية، التي تستورد من الخارج في تراجع هذه الحرفة التقليدية، حيث ارتفع سعرها بأضعاف ما كانت عليه منذ عشر سنوات خلت، وهو ما جعلها تشكل أعباء مالية على الحرفيين، الذين أصبحوا يعتمدون على النحاس الخفيف، الذي يمكن أن تطرأ عليه تغييرات مع السنين، عكس النحاس الأحمر الذي يحافظ على لونه وقيمته مهما طال الزمن.
“القصعة” ضرورة كل البيوت في طريقها إلى الزوال
صناعة القصعة حرفة يدوية توارثتها الأجيال واستطاعت أن تضمن استمرارها رغم قدمها واستغناء العديد عنها، وهي صناعة منتشرة بكثرة في الشرق الجزائري وبعض ولايات الوسط كالمدية وتيبازة، وارتبطت هذه الحرفة، بكل أنواعها وأشكالها، بالنظام الغذائي الشعبي التقليدي للجزائريين، وقد يكون ذلك هو سر إصرار هذا النشاط على البقاء، فالكسكسي والشخشوخة وغيرها من الأكلات الشعبية ما زالت واسعة الاستهلاك والطلب عليها في تزايد، وباستمرارها يستمر نشاط صناعة هذه الأواني المنزلية الخشبية التي تستخدم في إعداد مثل هذه الأكلات الشعبية، التي لا ذوق لها إلا إن أعدت في القصعة، وحسب السيد “بوعلام” من مدينة فوكة بتيبازة، فإنه أصبح الوحيد بالولاية الذي يمارس هذه الحرفة، على الرغم من أن هذه الأخيرة تزدهر في الولايات الشرقية، وبرر المتحدث تراجع هذه الأخيرة بصعوبة الحصول على المادة الأولية خاصة وأن هذه الصناعة تتطلب نوعا معينا من الأشجار، فليست كل الأنواع صالحة لصناعة الأواني الخشبية، فهناك ما لا يصلح لهشاشته وعدم مقاومته للحرارة والبرودة وغيرها، ويبقى أفضلها هو شجر الأرز، المعروف بتسميته القديمة “الباقنون”، وهو نوع يتواجد بكثرة في ولاية خنشلة، وهنا أشار السيد “بوعلام” إلى غلاء سعره، خاصة وأن هذه المادة أصبح يملكها، حسبه، تجار لا يعرفون قيمتها ويحتكرونها مما يحول دون استمرارهم، ونوه أنه في الفترة الأخيرة لم يتمكن من الحصول عليها ليستمر ثلاثة أشهر كاملة دون أن يصنع قصعة واحدة، خاصة وأن الفترة تزامنت مع فصل الصيف الذي يسجل توافد الأجانب على المنطقة وكذا المغتربين. ويبقى الحطب المستخلص من أشجار أخرى بديلا رغم أنه أقل جودة، منها أشجار الدردار والصنوبر والصفصاف، كما أشار المتحدث إلى أن هذا النقص يؤدي إلى ارتفاع سعرها الذي كثيرا ما يكون وراء عزوف الزبائن عن اقتنائها.
“الماطلة” تقضي على حرفة “التطراح”
خياطة “المطارح” المعروفة بـ “التطراح” حرفة تقليدية ضاربة في التاريخ، ارتبطت لسنوات طويلة بالعرائس كون الكثير منهن يقمن بأخذ هذا النوع من الأفرشة مع “الجهاز”، وكانت الواحدة تجد سهولة في الوصول إلى صانعي هذه الأفرشة، إلا أنه وبمرور الزمن هجرها أصحابها خاصة مع انتشار الأفرشة الجاهزة بمختلف أنواعها، ورغم أن هذه المهنة ضاربة في التاريخ إلا أنها لم تسلم من الهجر، فما رواه لنا “عمي الطاهر” بإحدى الأزقة بالقصبة العتيقة أن اليهود القدامى كانوا يمارسون هذه المهنة، إلا أن التضييق على أصحاب الحرفة جعل عملهم يتراجع بشكل كبير، رغم أن “المطرح المعبأ بالصوف أفضل بكثير من المستورد”، ودليله في ذلك أن ما ينجزونه لا يتعرض للتلف، مهما مرت السنوات عليه، إضافة إلى أنه لا يسبب الأمراض، مقارنة بالمستورد، خاصة في فصل الشتاء، مشيرا، في الوقت نفسه، إلى أن عدد المحلات الخاصة بهذه المهنة تقلص بشكل كبير.
الفيدرالية تندد وتحذر
حذرت الفيدرالية الوطنية للحرف التقليدية من استمرار النزيف المسجل على مختلف الحرف التقليدية، حيث أكد رئيسها رضا يايسي لـ “الموعد اليومي” أنهم راسلوا وزارة السياحة والصناعات التقليدية عدة مرات وحتى الجهات العليا للبلاد، لأن التراجع أصبح بشكل يومي، وربط المتحدث ذلك، بنقص الاهتمام بالحرفيين الذي تراجع بشكل رهيب، وهو ما يهدد، حسبه، تركيبة المجتمع ككل، خاصة وأن الصناعة التقليدية هي بطاقة التعريف للشعوب، يضيف المتحدث، ورغم المجهودات التي يبذلونها كفيدرالية بتشجيع الحرفيين عن طريق مساعدتهم في تنظيم معرض، إلا أن السلطات عجزت عن المساهمة في مهمة إحيائها من جديد والدليل بطاقة الحرفي التي يحملها عدد قليل منهم، بالإضافة إلى غياب التحفيزات المادية التي تشجع الحرفيين على مواصلة نشاطهم عوض تغيير النشاط مثلما فعل الكثير منهم بسبب المستوى المعيشي المتدهور.