إن حضارة الإسلام هي أوسع الحضارات امتدادا عبر الزمان والمكان، فعمت أرجاء الأرض، وحكمت العالم ثلاثة عشر قرنا، ورغم هذا الاتساع الهائل والمدة الطويلة فإنها أقل الحضارات البشرية سفكا للدم، وتعذيبا للبشر، ونشرا للجوع والفقر؛ لأن دعاتها فتحوا قلوب الناس للإسلام قبل فتح بلدانهم بالسنان، ورأى الناس منهم الرحمة والعدل والإحسان فسلموا لهم، وفضلوهم على حكم غيرهم، وأكثر بلاد الأرض إبان الفتوح دانت للمسلمين سلما، ورضي أهلها بحكمهم قبل الحرب.. وطالب نصارى حمص أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن يستمر في حكمهم ولا يتخلى عنهم لبني دينهم.. وبعد فتح سمرقند ادعى أهلها أن الفاتحين المسلمين لم يخيروهم بين الإسلام والجزية والحرب، فقبل قاضي المسلمين حجتهم، وحكم لهم، وأمر جند المسلمين بإخلائها وتخييرهم قبل فتحها، فأسلم أهل سمرقند؛ لأنهم لم يروا لهذا العدل مثيلا وقد وطئ أرضهم غزاة كثر. وفي فتح القسطنطينية بكى رهبانها من عدل المسلمين فيهم، وإكرامهم لهم، وقد قارنوا عدلهم بظلم الكاثوليك لهم لما استباحوا بيزنطة وارتكبوا فيها المذابح، واغتصبوا النساء، وخربوا العمران، ونهبوا آثارها، رغم أنهم على دينهم. إن حضارة الإسلام لما تمكنت في الأرض أقامت العدل في الجملة، وحكمت بين الناس بشريعة الله تعالى فأَمِن المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وأخذ كل ذي حق حقه. إنها حضارة لم تحتكر العلوم والمعارف، ولا الصناعة والتجارة، وأتاحت علومها ومعارفها لكل منتفع بها، وفتحت معاهدها ومصحاتها لكل محتاج إليها، فبرع في العلوم التجريبية من طب وهندسة وصناعة ونحوها النابغون من شتى الملل والأجناس، من يهود ونصارى ومجوس إضافة إلى المسلمين، ونعم بها روم وفرس وترك وغيرهم من الأجناس بالإضافة إلى العرب. إنها حضارة لم تفسد الاقتصاد بالربا والقمار، ولم تخنق الفقراء بالغش والاحتكار، وراعت حاجة الكبير والصغير، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والرجل والمرأة، والمسلم والكافر، فأعطت كل ذي حق حقه بلا زيادة ولا بخس.
