“المحابسي”.. الصفة التي لا ترحم
يواجه خريجو السجون صعوبات جمة في مواجهة المجتمع والتعايش مع نظرات الريبة التي تحيط بهم، خاصة بالنسبة للتائبين وأولئك الذين دخلوه “غلطة” أو نتيجة عمل لم يتوقعوا نتائجه.
رغم انقضاء المدة العقابية التي حددها القاضي، إلا أن الخارج من السجن يشعر وكأن حكم المحكمة ما زال ساري المفعول لالتصاق صفة “المحابسي” به أينما راح يطلب عملا أو يطلب “فلانة” للزواج، وهو الأمر الذي يفكر فيه المسجون ويشغل باله خاصة الذي يعتزم التوبة والعودة إلى طريق الصواب، فتتحول حياته فور خروجه من السجن إلى جحيم بفعل نظرة المجتمع التي لا ترحم.
العمل والزواج والمواجهة القاسية
يتخبط خريجو السجون كغيرهم من الشباب الجزائري في مشاكل جمة، يُضاف إليها الصفة اللصيقة بهم، التي تقف حجر عثرة أمام كل خطوة جادة لتأطير الحياة وتخطيط المستقبل، حيث ترفض الكثير من الأسر تزويج بناتها مع مساجين سابقين، كما يتطلب الحصول على عمل تقديم شهادة خالية من السوابق العدلية، وهو ما يجعله يقف عاجزا أمام تجديد حياته وفصل مستقبله عن ماضيه الذي ظل طيفا ملازما له.
عقاب المجتمع الذي لا يرحم
طالما سمعنا ورددنا أن المجتمع لا يرحم.. وفي هذه الحالة فإنه لا يرحم الظالم أو المظلوم، فمجرد دخول السجن ولو لشهر واحد ولو كان المتهم بريئا، فإن المجتمع لا يبرؤه أبدا ويحمّله لقب سجين طوال حياته، أما إذا كان المتهم فعلا مذنبا، فإن المجتمع ينفر منه ومن التعامل معه بعد خروجه من السجن مهما اختلفت الدوافع التي رمت به خلف القضبان، وهذا ما يضاعف من إحباط السجين ويقضي على مستقبله.
فإلى جانب معاناة السجين من نظرة المجتمع الدونية له، فإنه غالبا ما يعاني أيضا من غياب الدعم المعنوي والنفسي والمادي من طرف الأسرة، فبمجرد إصدار القاضي للحكم، تغادر بعض الأسر المحكمة دون رجعة ودون حتى توديع المتهم.. فما بالك باستقباله بعد الخروج من السجن، فهذا النوع من الأسر يتنكر للسجين ويرفض الاعتراف به كفرد من الأسرة، معتبرين ذلك عارا سيلطخ سمعتها، أما إذا كان السجين أو السجينة متزوجا، فإن الطرف الآخر غالبا ما يطلب الطلاق قبل انقضاء مدة الحكم ويتخلى عن نصفه الآخر في عز الأزمة.
أوصاف تدمر الحالة النفسية وتدفع للعودة للسجن
بعد خروج السجين تطاله أقوال ونظرات المحيطين به الجارحة تنغص حياته وتجرح مشاعره، كما تلاحقه الألقاب التي يطلقها أفراد المجتمع عليه كـ “المحابسي” وغيرها من الألقاب التي تبقى لصيقة بالشاب الذي دفع ثمن جريمته داخل المؤسسة العقابية أو الإصلاحية التي من شأنها أن تجعل المعاقب يبتعد عن كل ما يعيده إليها، لكنه ينال عقابا أشد وأمر من مجتمع لا يرحم المسجون، وبالرغم من أن بعض المساجين اختاروا طريق التوبة إلا أن ما يواجههم داخل مجتمعهم من نظرات وأقوال جارحة، وكذا وقوعهم في شبح البطالة يدفع بالكثير منهم إلى البحث عن لقمة العيش بالعودة إلى طريق الضلال والانحراف.
السجينات.. لا توبة يقبلها المجتمع
السجينات، الكلمة وحدها تكفي لوضع الخط الأحمر، حيث تؤكد الوقائع والأحداث استحالة تقبل المجتمع للفتاة أو المرأة التي دخلت السجن، حيث لا تنفعهن توبتهن بعد الخروج من قضبان السجن كون المرأة تبقى وصمة عار للأبد، سواء بالنسبة لأقاربها أو المحيطين بها، وهو ما تأكدنا منه من خلال حديث جمعنا ببعض السجينات السابقات، والتي أرادت أن تفضفض لنا بما تكبدته من ألم ومعاناة بعد قضاء فترة عقابها في السجن لمدة خمس سنوات بعدما حملت تهمة تجارة وترويج المخدرات عن خطيبها، ودخلت ظلما بفعل خداع زوجها لها، هذا ما أكدته لنا تلك الشابة التي ضيعت عمرها بتحمل جريمة لم تقترفها كلفتها الدخول إلى السجن ظلما، حيث قررت سرد قصتها المريرة فتقول: “لم أتوقع يوما أني سأزور السجن بفعل خداع خطيبي لي.. فقد أراد تحقيق مصالحه بعدما أقنعني بحمل حقيبة لم أكن أعلم ما يوجد بداخلها، إلا بعدما عثرت الشرطة على كمية من المخدرات.. فأدركت أني وقعت في ورطة لا أستطيع الخروج منها، وما زاد من معاناتي أن عائلتي تخلّت عني و اعتبرتني وصمة عار عليها، وبعد خروجي من السجن رفضت عائلتي إقامتي بالمنزل خوفا من كلام الجيران وشعورهم بالحرج، خاصة وأنهم يعتبرونني سببا في عدم زواج أخواتي، ولأنني فتاة شريفة قررت أن أعمل في الحلال فتوجهت للعمل في المنازل ولكن لعنة دخولي السجن ظلت تلاحقني، حيث كلما علمت العائلة التي أعمل عندها أني خريجة سجن تطردني ما دفعني لأن لا أكون صادقة و لا أصارح بالماضي الذي دمر حياتي ومستقبلي.
إهانة متعمدة ونظرة دونية لا تساعد على الحياة
معاناة واحدة تعيشها خريجات السجون خاصة اللواتي يعتزمن الحياة الشريفة، حيث لا يسلمن من النظرات الجارحة ولا من مضايقات جيرانهن، فغالبا لا يراعي بعض الأشخاص شعورهن بل يتعمدن إهانتهن بكافة الطرق لمجرد أنهن ارتكبن خطيئة تمت معاقبتهن عليها، لكن المجتمع لم يغفرها لهن، فقد علمنا من _صليحة _ التي عرّفتنا بها ناشطة جمعوية أن شقاء السجن أهون من عذاب ما تعرضت له من قبل المحيطين بها بعد خروجها، حيث روت لنا عن نظرات معارفها لها وجيرانها التي كانت تدل على رفضهم لها، حيث أكدت أنها لطالما انتظرت يوم حصولها على حريتها إلا أنها لم تسلم من مضايقات جيرانها بالحي الذي تقطن به، وعن سبب دخولها للسجن فتقول أن ظروف عائلتها الصعبة دفعتها للسرقة كوسيلة وحيدة لإنقاذ حياة والدتها المريضة.
عائلات تتجرع مرارة أخطاء أبنائها
حاولنا أن نتقرب من بعض عائلات المسبوقين و هو الأمر الذي لم يكن سهلا علينا، إذ أن الحديث معهم و عن وضعهم بالذات يثير الكثير من الحساسية لديهم، ما جعلنا نحتاج للمساعدة من طرف بعض معارفهم، عائلة “سيد علي”، صاحب الـ24 عاما الذي تورط في سرقة إحدى الفيلات، قالت والدته إن والده هو من كان سببا في انحراف ابنه بعد طلاقه منها، ولم ينفق عليه يوما بالرغم من ثرائه وتستطرد قولها فتخبرنا أن “سيد علي” أراد أن ينتقم من أبيه فقرر استرجاع حقه من البيت بعد سرقة بعض الأغراض الثمينة، وما فاجأها أن والده لم يشفق عليه بالمحكمة ولم يسامحه بل فضّل معاقبته، وعن حياته بعد خروجه من المؤسسة العقابية، فتقول أن أبناء الحي لا يتركونه وشأنه بل يلقبونه بـ “المحابسي”، كما أنه لا يستطيع استخراج بعض الأوراق وما يزيد من معاناته أنه لا يستطيع الحصول على منصب عمل مناسب بفعل نظرة أرباب العمل السلبية الذين يعتقدون أن المسبوق قضائيا يشكل خطرا على مؤسساتهم الخاصة،و من جهتها السيدة فتيحة قالت إن ابنها و رغم أنه لم يرتكب سرقة أو جناية، فسبب دخوله السجن كان ضربه لشرطي أهانه، إلا أنه بمجرد خروجه من السجن واجه الكثير من الصعاب سواء المتعلقة بالعمل أو حتى الزواج.
الزواج بالمحبوس بين مؤيد ومعارض
إن البحث مسبقا عن سيرة وسمعة شريك الحياة من العادات السائدة بين العائلات الجزائرية، لذا فإن المسبوقين قضائيا يظلون مرفوضين وغير قادرين على إكمال نصف دينهم بفعل النظرة الخاطئة الموجهة لهم، بالرغم من أن الكثير منهم اختاروا طريق الهداية والتوبة إلا أن شهادة السوابق العدلية وقفت حاجزا أمام العديد منهم، بعدما لطّخت أخطاؤهم سيرتهم خاصة أن البحث عن سمعة شريك أو شريكة الحياة ضروري قبل الزواج، هذا ما دفعنا لرصد وجهات نظر الشباب في هذا الموضوع فكان تقبلهم لفكرة الارتباط بالمساجين بين مؤيد ومعارض لكن أغلبهم رفض تلك المسألة، حيث اقتربنا من صديق، صاحب الـ 28 سنة لنسأله عن فكرة الارتباط بفتاة مسبوقة قضائيا، فقال إن الزواج بفتاة من ذوي السوابق العدلية مرفوض بمجتمعنا، كما أني أعتبر أن تلك الفتاة غير مؤهلة لتربية أولادي مستقبلا على الطريق المستقيم، لذا فإني أخاف أن تكون سببا في انحرافهم. وعلى عكس قول فريد، فإن كريم يرى أن الارتباط بفتاة مسبوقة لا يعيق حياته الزوجية خاصة إن تأكد أنها قد اختارت الطريق المستقيم والتوبة عن الخطأ الذي تورطت فيه، لكنه يرفض الارتباط بفتاة متورطة في قضية دعارة كون المجتمع يعتبرها وصمة عار.
أما الفتيات فقد تباينت وجهات نظرهن فـ “فتيحة”، طالبة جامعية تجد أن جميع البشر غير معصومين من الخطأ، كما أن الدين يدعو للتسامح، لذا فهي تجد أن الزواج من مسجون سابقا يتوقف على طبيعة الجرم الذي ارتكبه، لكي تتأكد الشابة من عدم تشكيله خطرا على أسرتها مستقبلا، كما أنها لا تجد أي مانع من الارتباط بشاب مسبوق بعد أن تتأكد من توبته الصادقة وأنه لن يعود يوما للانحراف، في حين أشارت بحديثها أن شرط قبولها له هو عدم اخفاء سوابقه العدلية عنها لمعرفة القرارات التي توصل إليها المسبوق قضائيا بعد المدة التي قضاها في السجن ومدى استعداده لفتح صفحة بيضاء في حياته الزوجية.
اضطرابات ما بعد الصدمة
يرى المختصون في علم النفس أن السجن يمثل صدمة نفسية وتستمر هذه المعاناة النفسية والاجتماعية إلى ما بعد الخروج من السجن، وقد تتطور إذا لم يجد المفرج عنه القلوب الرحيمة و العناية من طرف المقربين إليه، فالسجين أثناء مدة سجنه يشعر بالدونية وبعد خروجه تزيد عدوانيته بسبب النظرة السلبية للمجتمع الذي يعتبره مجرمًا سابقًا وأيضًا الخوف منه وعدم التعامل معه وعدم تزويجه أو الزواج منه، مما يجعل ثقته في نفسه تضعف ويغمره الشعور بالاكتئاب الذي قد يقوده إلى النفور الاجتماعي والقلق المتواصل، وروح التوجس والخيفة تجعل من النزيل السابق مثالاً لعدم التوافق النفسي وتجعله يسلك العدوانية والانتقام والحقد على المجتمع ربما أملاً في العودة إلى السجن مرة أخرى بعد أن لفظه المجتمع، فالمشاكل النفسية المصاحبة للصدمات غالبًا تولد رعبا وخوفا غير مبررين، وصمت وعدم رغبة في الحياة، المعاناة من الكوابيس، اضطرابات النوم بالإضافة إلى زيادة الحساسية بشكل مفرط تجاه المواقف، لو بقي الشخص يعاني من هذه الأعراض مدة شهر أو أكثر من بعد الصدمة، فيتم تشخيصه في الطب النفسي بالإصابة باضطراب ما بعد الصدمة وهي اضطرابات تهدد بمشاكل كبيرة في المستقبل لو تم إهمال علاجها، مثل خطر زيادة العنف خصوصًا للانتقام من الأشخاص الذين تسببوا في الصدمة أو الميل للانتحار كنتيجة لعدم الرغبة في الحياة والميل للهروب من الواقع بتعاطي المخدرات والمهدئات والمنومات بشكل مُفرط بدون استشارة طبيب وزيادة المعاناة من المشاكل الصحية المرتبطة بالإصابة بالاضطراب نفسه.