أنوار من جامع الجزائر

دماء 8 ماي شعلة الفاتح من نوفمبر – الجزء الأول –

دماء 8 ماي شعلة الفاتح من نوفمبر – الجزء الأول –

أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ: إِنَّ طَرِيقَ الْنصر مَحْفُوفٌ بِالِابْتِلَاءِ، وَلَيْسَ مَفْرُوشًا بِالْوُرُودِ، فَهَكَذَا جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ: أَنْ يَبْتَلِيَ مَنْ أَحَبَّهُمْ، لِيُطَهِّرَ صُفُوفَهُمْ، وَيَصْقِلَ مَعْدِنَهُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَعَلَيْهِ السُّخْطُ”. رواه الترمذي. لَقَدْ شَاءَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ يَمُرَّ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ مَحْفُوفَةٌ بِالدِّمَاءِ وَالْبُطُولَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا فِي تَارِيخِنَا الْـحَدِيثِ، يَوْمُ الثَّامِنِ مِنْ شهر مَاي سنة خمسٍ وأربعين تِسْعِمائة وألف، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْـمَشْهُودُ الَّذِي لَا يُنْسَى فِي ذَاكِرَةِ الْجَزَائِرِ، يَوْمٌ امْتَزَجَتْ فِيهِ دِمَاءُ الْآلَافِ مِنْ أَبْنَاءِ شَعْبِنَا، لَا لِذَنْبٍ اقْتَرَفُوهُ، سِوَى لأَنَّهُمْ خَرَجُوا يَهْتِفُونَ: “اللَّهُ أَكْبَرُ” “تَحْيَا الْـجَزَائِرُ”، “نُرِيدُ الحرية والِاسْتِقْلَالَ”. لَقَدِ ارْتَكَبَ الِاسْتِعْمَارُ الْفَرَنْسِيُّ فِي ذَٰلِكَ الْيَوْمِ مَجَازِرَ رَهِيبَةً فِي سطِيف، قَالمَةَ، خَرَّاطَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ رُبُوعِ وَطَنِنَا الْجَرِيح، حِينَ أَمْطَرَ العدوُ البغيض الْمُتَظَاهِرِينَ الْمُسَالمِينَ بِالرَّصَاصِ، وَأَمَرَ بِتَقْتِيلِهِمْ، حَتَّى امْتَلَأَتِ الْوِدْيَانُ بِالدِّمَاءِ، وَالْأَرْضُ بِجُثَثِ الشُّهَدَاءِ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِمْ يَقُولُ: “أَمِنْ أَجْلِ أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْحَقِّ، تُزْهَقُ أَرْوَاحُنا بِالظُّلْمِ؟”. إِنَّ أُمَّتَنَا جُبِلَتْ عَلَى الْفِدَاءِ، لَا تَنحْنِي إِلَّا لِخَالِقِهَا، وَلَا تَضَعُ جَبْهَتَهَا إِلَّا فِي مِحْرَابِ الْعِبَادَةِ. حَمَلَتْ لِوَاءَ الْجِهَادِ مُنْذُ فَجْرِ الرِّسَالَةِ، وَسَارَتْ عَلَى خُطَىٰ نَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الَّذِي عَلَّمَ الْبَشَرِيَّةَ مَعَانِي الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّضْحِيَةِ، أُمَّةٌ كَتَبَتْ تَارِيخَهَا بِالْدِّمَاءِ لَا بِالْحِبْرِ، وَصَاغَتْ مَجْدَهَا بِالْبُطُولَاتِ لَا بِالشِّعَارَاتِ، أُمَّةٌ تَأْبَى الذُّلَّ، وَتَرْفُضُ الْخُضُوعَ، شِعَارُهَا: “الْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَيَاةٌ”، وَرَايَتُهَا: “لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ”. إِنَّ أُمَّتَنَا تَجَرَّعَتِ الْوَيْلَاتِ عَلَى مَدَىٰ قَرْنٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً مِنَ الِاحتِلالِ الصَّلِيبِيِّ الْغَاشِمِ، الَّذِي مَا عَرَفَ وَفَاءً وَلَا حِفْظًا لِلْجَمِيلِ. لَقَدْ تَنَكَّرَ الْغُزَاةُ لِأَيْدِينَا الْبَيْضَاءِ الَّتِي مُدَّتْ إِلَيْهِمْ يَوْمَ كَانُوا فِي ضُعْفِهِمْ وَضِيقِهِمْ، فَقَابَلُوا إِحْسَانَنَا بِالْإِسَاءَةِ، وَكَرَمَنَا بِالْإِهَانَةِ، أَحْيَيْنَاهُمْ فَأَمَاتُونَا، وَصَلْنَاهُمْ فَقَطَعُونَا، وَشَارَكْنَاهُمْ حَرْبًا لَا نَاقَةَ لَنَا فِيهَا وَلَا جَمَلَ، فَحَرَّرْنَاهُمْ من بطش النازية، فَأنَكَرُوا جَميلنَا، وَنَكَثُوا الْعُهُودَ، وَقَتَلُوا أَحْيَاءَنَا، وَنَكَّلُوا بِمَوْتَانَا، غَيْرَ مُبَالِينَ بِقِيَمٍ أَوْ مُوَاثِيقَ، فَضَرَبُوا بِكُلِّ الْمَبَادِئِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَرْضَ الْحَائِطِ.  فَأَيُّ إِنْسَانِيَّةٍ يَتَغَنَّوْنَ بِهَا؟ وَأَيُّ حَضَارَةٍ يَزْعُمُونَهَا؟ إِنَّهَا حَضَارَةٌ زَائِفَةٌ لَا تَثْبُتُ أَمَامَ أَوَّلِ اخْتِبَارٍ، قِيَمُهَا تَنْهَارُ حِينَ تُعَارِضُ مَصَالِحَهُمْ، وَشِعَارَاتُهُمْ تَسْقُطُ إِذَا تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ.

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر