أشجان القلب.. خواطر مهداة إلى روح الوالد

ذكريات لا تموت

ذكريات لا تموت

أبي.. ربما غداً أو بعد غد.. ربما بعد سنين لا تعد، ربما ذات مساء نلتقي في طريق عابر.. من غير قصد

أبي.. أتذكر أعياد الأضحى التي مضت في وجودك، وها هو اليوم يعود العيد من جديد وأبي غير موجود، وأتذكر عيد الأضحى الماضي كأنه اليوم..

منذ كنا صغارا وأطفالا وكان أبي دائما يسعد بإسعادنا، يفعل كل ما بوسعه من تضحيات ليرانا فرحين ككل الأطفال..

وكثيرا ما كان يقضي ليال من السمر يتناقش هو وأمي عن الميزانية وكيف بإمكانهما شراء لباس جديد لنا وخروف لنا…

وبطريقة ما يجد الحل ويجعلنا دائما نعيش الفرحة… فيأتي أبي بخروف العيد ونحن نراقبه من النافذة فنركض جريا فرحين ككل الأطفال… ليحل بعدها العيد، فننتظر عودته من الصلاة كي يحتضننا ويعطينا العيدية…

ما زلت أتذكر السنوات الماضية والعام الماضي وصورته المحفورة في ذهني وهو يقطّع الشواء بدقّة، فأسأله كيف لك أن تجعل كل القطع متشابهة هكذا، فيجيبني هل درسّتُ الرياضيات

والهندسة ثم لا أستفيد منها في حياتي… يقطعه بطريقته ثم يأخذ بنا إلى السطح، ويضع الجمر ويشويه لنا ويطعمنا واحد تلو الآخر و يبقى هو في الأخير بعد أن نشبع جميعنا، حتى أنه طلب مني العام الماضي أن أختار أي قطعة لحم وسيشويها لي وفعل ذلك، ثم يقول عبارته الدائمة: “كولو واشفاو” ..

نعم لا زلنا نتذكر، وهل عسانا ننسى؟ وكيف لأصدق حب أن يُنسى هو حب الوالد لأبنائه وتضحياته الكثيرة من أجل اسعادنا..

في آخر رحلة معه اشترى الدجاج المشوي وأخذ بنا على شاطئ البحر وقال لي كُلي يا ابنتي واستمتعي لربما لن أكون موجودا يوما، حينها ستقولين إن أبي لم يترك في بالي شيئا لم يحققه من رحلات وأحلام..

تذكري أنني لا أستطيع النوم إذا لم اصطحبك أنا من دراستك ويبقى بالي مشغولا عليك ولا يزورني النوم دون أن أراك..

كان يردد كثيرا “تذكري، تذكري، تذكرني”، فكأنه كان يقول سأذهب يوما لكن تذكري أن أباك كان دائما موجودا ولن تحتاجي لغير الله أحدا..

نعم، لا زلت أتذكر، وأحببت دائما العِلم الذي أحببته أنت، حتى أنني حاولت أن أخطو فيه مثلك، لكنني لم أمتلك الصبر الذي امتلكته أنت..

اكتسبت الحرفة التي علمتني إياها والصفات التي عوَدتنا عليها دائما وهي الصمود والصبر وألا نقبل بالإهانة، أحببت حتى حيواناتك الأليفة التي صارت جزءا لا يتجزأ مني، وصارت أعز صديق لي، صرت أتأملها كثيرا وأضيع في تفاصيلها مثلما كنت تفعل أنت دائما..

صرت أراك في نفسي، وفي كل ذكرى تركتها لي، إني أتذكر

وما زلت أتذكر وسأبقى دائما أتذكر، ولن أنسى كل ما قدمته لي للأبد، وستبقى دوما الرجل المثالي، القوي واللين في نظري،

كل الخطوات التي خطوتها وراءك أنا وأمي وأنت تأخذ بنا لصلاة العيد كل مرة وتحتضننا وتعايدنا بعد الصلاة وتدللنا بالعيدية حتى ونحن كبارا، ستشهد لك بأنك كنت تعاشر بالمعروف وستشهد بأنك أرضيتنا، فيا رباه ارضى عنه كما أرضانا، وأسعده في آخرته كما أسعدتنا في دنيانا، وعوضه عن كل دمعة نزلت منه في الخفاء من تعبه بسبب الحياة وكل جهد بذله لإسعادنا بالنزل الطيب عندك، اجعل له بيتا في الجنة…

ابنتك الوفية كوثر