يجر رجله كخيط رفيع، تقطعت عقدة رأسه، فتاهت عنه إبرة المسالك
فاتحا شفتيه ينزف دما، يشير بيديه يصيح: أغيثوني! أغيثوني!
من هول الفاجعة، لا أحد يسمع، الكل أصم أبكم…؟ حتى الحيطان زاد خرسها، فلا الصدى يراودها ولا الضجيج يفارقها، قنابل الهاون تزلزل راحتها وتكسر صمودها …
صنابر الماء تدفقت عشواء، الغبار أطمس معالم السماء، أتلف أعمدة الكهرباء، رقص الخوف يسري في عروق الأشخاص يهز الأكتاف، يراقص حركات العيون، يفصل الفكر عن الروح…
وكأنها يوم قيامة مباغتة أو طوفان نوح هربت عنه السفينة،
أخذ وردّ وتدافع مع النزول والهبوط…غارة سوداء، موج مخدر ورصاص هائج أصاب مدينة الظل…
فقط شقائق النعمان حافظت على فستانها الأحمر المسقي بدماء الشهداء، خرير ماء السواقي والأنهار، تألقت سمفونيته، يسدل خمار العاشقين، ينتظر أقدامهم بشوق وقبلاتهم المسائية في خفية عن أعين زائغة.
ما زال “جهاد” يجر رجله النصف مبتورة ويتمزق ألما…
وزرات بيضاء حوطت المكان، بعض الإسعافات الأولية تحاول تخفيف ألم سرى كالسم في جسده وهو يردد: لقد فعلتها أخبروا حبيبتي ..!
“جهاد” شاب في الثانية والعشرين من عمره يفيض حيوية وجمالا تسري بين عروقه طاقة فوق المعتادة ونخوة الشباب، يحب وطنه أكثر من أي شيء .
أقسم على أن يذود عنه بالغالي والنفيس فتطوع.. لبس بندقية، تسلح إيمانا بمبادئه ودّع حبيبته، همس في أذنيها …أحبك…سنتزوج…!؟
على سفح الجبل شاهد ثلاثة من أصدقائه كالنمل يتناثرون، يستغيثون، أجسادهم الفتية يأكلها الغزو والجبروت، يلتهمها الفساد بين أنيابه الغادرة..
لماذا يا أرض تركتهم يدخلون
لمَ أنبتت شجرة الزيزفون؟
أحقا ولدنا لنموت…
ونموت لنحيا
فالموت عندي أرحم
من قصر بعيون…
يسترسل.. يقبض بمكبس بندقيته، يحاول تسلق الجبل، زاحفا بإشارة من قائده، يستمر في فك شفرات طريقه…
القائد مشجعا:
-تقدم يا جهاد، فالجنة تنتظرك والاستشهاد حلمك… فلا تتراجع ،، حلمك قريب منك.
فجأة تظلم السماء ثانية، تخترق تلك الرصاصة الغادرة رجله المسكينة، يعضّ على شفتيه ويستمر بالصعود… رويدا رويدا يصل بمشقة إلى الأعلى يضغط بقوة، رصاصة تلو الرصاصة…
ثم يفجر شحنة بداخله قنابل أشعلت نيران جثامين العدو…
وهو يرى وجه حبيبته تشير بمنديلها الزهري وتقول بأعلى صوتها: -جهاد، جهاد أحبك وسأحبك حتى آخر قطرة من دمي ودمك…أنت فخري! أنت وطني…!
لن يكسر القدر قيدا وضعته في معصمي…
وسط هذا الحلم يغمى عليه بين أحضان أمه الحبيبة وتحت زخات دموعها الماطرة….
بقلم: فوزية أحمد الفيلالي